|
نوّه فضيلة الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن الحارثي القاضي بديوان المظالم، بإنشاء جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية؛ واعتبرها هديّة من العالم الإسلامي للإنسانية جمعاء، وعنوانا لحسن النوايا وإرادة الخير.
|
ووصف الجامعة بأنها ذاتُ قيمة عالية، وأنها صرحٌ كبيرٌ يشار إليه بإكبار وإجلال، أعاد ذكريات زمن أضاءت فيه حضارة الأمة الإسلامية العالمَ قاطبة قروناً عديدة.
|
وأكّد على أن الوقت الحاضر لا يتعامل إلا مع لغة العلم والتقنية، وأننا ما نزال - وللأسف - عالةً على إبداعات الآخرين، وأن الجامعة جاءت لإعادة كرامة الأمة، ووصف إنشائها بحدث القرن، الذي أثلج الصدور في كل مكان.
|
وقال: لا أعلم أحداً ممن يحب الخير لوطنه وأمته إلا أشاد بها ودعا لخادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز - يحفظه الله - بأن يبارك جهوده ويجزيه خير الجزاء على هذه الهديّة الثمينة التي رفعت هاماتنا عالياً، وسترفع مع قادم الأيام من قيمة الأمة الإسلامية - إن شاء الله - المزيد والمزيد، وتترجم مستوى تقديرها للعلم والتقنية.
|
وبيّن أن المجتمع الإسلامي في العهد النبوي كان على مستوى السمو في الاهتمام بقيم العلم والفضيلة، وفي خصوص المرأة فقد أكرمها كل الإكرام وحافظ على شرفها وعزتها.
|
وأشار إلى أن النصوص الإسلامية شددت على خطورة التساهل في العلاقة بين المرأة وبين الرجل، منعاً من أي تصرف من شأنه أن يفضي إلى المحرم أو الوقوع في الكبيرة.
|
وأبان أن اللقاء العام بين الرجال وبين النساء لا بد له من شروط؛ منها: أن يكون الجمع من الجانبين، ولا يغلب فيه الرجال بشكل ملحوظ، وأن يكون مما تجري به العادة لمصالح الدين والدنيا المتعارف عليها، وأن يكون ثمة احتشاماً وعدم تبرج بلبس الزينة أو استخدامها، وهذا الاجتماع مشاهدٌ سلفاً وحاضراً، في أماكن العبادة، ومنها المسنون فقط، وسواها كما في السفر، وتحديداً في وسائل النقل الحديثة من طائرات وقطارات وحافلات وسفن في أمور تكميلية؛ لا حاجية، ولا ضرورية.
|
وأضاف بأن كلمة الاختلاط هي كلمة حديثة وذات مفهوم متسع، ولا يناسب أن نعطيها حكم المنع بشكل عام ومطلق دون تفصيل، فلفظ الاختلاط مضطرب وغير دقيق متى حُكم بأنه محرمٌ جملة وتفصيلاً، إذ وجد من يقول: إن الاختلاط محرمٌ أشد تحريم، وهذا من القول على الله بلا علم، ومن الاستعجال في الأحكام بلا دليل، فلا بد من السبر والتقسيم وإعطاء كل جزئية حكمها الصحيح.
|
وتابع الشيخ الحارثي: لا شك أن للاختلاط أحكاماً شرعية غير التحريم.
|
واستطرد: بأن هذه اللفظة مبتكرة حديثاً وغير مُدْرَكة حتى في الماضي القريب بالمفهوم المستعمل في الوقت الحاضر.
|
وأوضح بأنه وفق البحث لم يعثر على هذه الكلمة في المصادر الفقهية المعتمدة كمصطلح، حسبما يُشعر به الاستخدام العصري لها، فهي لا تكتسي تشريعاً يساوي الخلوة التي لها أحكام فقهية متعددة مذكورة في أحكام النكاح وغيرها، ولها نصوص صريحة وواضحة، وكُتبت فيها رسائل علمية، وتوجد في مفاتح المصطلحات الفقهية وجذور حروف معاجمها.
|
وذكر بأن عادة المسلمين جارية على الاجتماع العامّ بين جنسي النساء والرجال لأشياء قد لا تكون ضرورية ولا حاجية بل تكميلية في شؤونهم الدينية (كما في السنن والمندوبات) أو الدنيوية، وليس لمجرد اللقاء فإن كان لمجرد اللقاء فهو مشكوكٌ فيه ويتحتم قطعاً منعه. وأومأ إلى أن الاختلاط مشاهدٌ عند الجميع في الأسواق والمستشفيات وغيرها، وفي أشياء لا تتطلبها الضرورة ولا الحاجة، ولا يمكن إنكاره ولا إزالته.
|
ومثّل بأن هناك سفراً للسياحة الدينية والدنيوية؛ ومن المتوقع أن تكون السياحة الدينية لتأدية عبادة ليست واجبة، وقد استمرت عادات الناس على قبول هذا الشيء، بالرغم مما فيه من الاختلاط بين الرجال وبين النساء.
|
ورأى أن المنع التامّ من رؤية أي من الجنسين للآخر تولّد عن بعض التصورات الطقوسية لدى بعض الكنائس بوصفها مرتبة سامية في حياة الرهبنة.
|
وأشار إلى أن الإسلام لا يقرّ هذه الآصار التي كانت على أولائك ولا الأغلال التي ابتدعوها من عند أنفسهم ولم تكتب عليهم، وفي السنة صورٌ من هذا التلاقي العفيف بين الرجال وبين النساء؛ ليس لأجل اللقاء كما سلف؛ ولكن لتسيير متطلباتهم ديناً ودنيا، حتى أُكرم النساء بمزيد من التقدير بالرغم من بقاء الاختلاط المصون، إذ جُعل لهن بابٌ وآدابٌ في المشي في الطرقات مراعى في ذلك ضيق الأزقة ومزيد الحياء من قبل بعض النساء، حيث تأتي إحداهن تسأل بل وتجادل، والأخرى تبعث غيرها.
|
والغربُ يأخذ بذلك في بعض تصرفاته لما يدّعيه من إكرام المرأة ومراعاة خصوصيتها التقديرية؛ فيُخصصُ لها مكاناً لقضاء الحاجة في الأماكن العامّة والعمل، وقد يعطيها الأولوية في الحديث، وفي بعض النقاط الخدمية حيث يخصص لها مساراً مستقلاً عن الرجال، لكنّ الإسلام - الدينَ الخاتم - أكرم المرأة بأضعاف هذه الأمور، ومن اطلع على كنوز السنة والسيرة وتأريخ الإسلام علم أن الإسلام هو دين تكريم المرأة بحق، وقد خصص لها النبي صلى الله عليه وسلم يوماً والتقى بها فيه ووعظها وعلمها، ولا يفهم من التخصيص منع الاختلاط لأن النبي صلى الله عليه وسلم حضره ومعه بعض أصحابه، ومن النساء من قد تستحي من الرجال خصوصاً في السؤال كما سبق.
|
وألمح إلى أن بعض الدعاة يشترط دائرة مغلقة في محاضراته للنساء، وهذا - مع احترام رأيهم - مما قد يُختلف فيه معهم تماماً؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان بإمكانه وضع حجاب من سُترة أو غيرها، فلمّا لمْ يُنقل ذلك مع قيام الداعي؛ دلّ على عدمه.
|
وعن التخوف من التساهل في الاختلاط الجائز، والتوسع فيه، أجاب الشيخ عبد اللطيف الحارثي: بأن المقياسُ هو الشرع، والتخوف لا بد أن يصحبه حسن ظن بالمسلمين، والمخاوف متاهات لا حدود لها، وأكثرها وساوس، وقد تتزايد وتصبح مصدرَ إعاقة ورُهاباً اجتماعياً، وقد نهى الشرع عنها، وولي الأمر في اعتقاد رعيته على أحسن الأحوال من التقوى والصلاح، وهو أحرص وأحوط لرعيته من غيره، وما أكثر ما تتلاشى التخوفات مع السنين عندما يتضح أنها لم تكن سوى مجرد أوهام لا أساس لها، أو أن تكييفها كان غير صحيح، وقد وقفت بعض الاجتهادات السابقة موقفاً رافضاً من بعض القضايا؛ ثم حصل التراجع عنها تماماً؛ منها: التصوير، وسنَّ الأنظمة؛ وهذا الأخير كان يُعتقد قبل خمسين سنة أنه في ظرف سنوات من الأخذ ببعض تلك الأنظمة سيحيل البلاد إلى قوانين وضعية بدلاً عن الشريعة، ولا يقول بهذا من يقرأ ويعي الثوابت التي تأسس عليها كيان المملكة العربية السعودية، ومدى العزة والافتخار التي تلامس وجدان قادتها عندما يتشرفون بخدمة عقيدتهم الإسلامية والمحافظة على حرماتها.
|
وشدّد على أن المواقف الرافضة تنشأ غالباً عن عادات وتقاليد من الصعب نقل أصحابها عنها إلا بكُلفة وعُسْر، ومن طبيعة النفس البشرية محاولةُ إيجاد المؤيدات والبحث عن المبررات لمواقفها أياً تكن، ولا مرية في أن أحبّها إلى النفوس مبررُ الدين لأنّه يمنحُ صاحبه رضى من الداخل واحتساباً، ويُوجد له قبولاً حسناً عند بعض العامّة، وعلّق بأن هذا النوع دوماً ما يقع في التناقض؛ ويصبح في حرج؛ إزاء المواقف والأحكام المزدوجة على الحالات المتماثلة أو المتشابهة دون تفسير مقنع.
|
وبيّن أن هناك أشخاصاً مهمتهم تكدير الأجواء، وإساءة الظن، والتغاضي عن التناقضات والإلزامات التي وقعوا فيها، كما أن نسبة كبيرة منهم يرجعون إلى المنطق السليم، لكن في بعض الأحيان لا تكون هذه المراجعة إلا بعد مرور وقت طويل، والشاعر يقول:
|
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه |
وصدق ما يعتاده من توهم |
وهذا بلا ريب صحيحٌ؛ وصورته الذهنية تتمثل في الشخص الذي تلازمه حالة سلبية بسبب فعل يمارسه، أو مرأى شاهده، أو قرأ عنه، أو حُكي له، أو خُوِّف منه، ومن الناس من تعتريه اضطرابات سلوكية يعكسها على مواقفه وآرائه وآراء من يوافقه في الاتجاه ذاته.
|
وقال الشيخ عبد اللطيف الحارثي: إن أئمة أصول الفقه ومقاصد الشريعة كشيخ الإسلام ابن تيمية رافع راية السنة وقامع الوثنية والبدعة، وسلطان العلماء الإمام العز بن عبد السلام، والإمام الشاطبي وغيرهم - رحمهم الله - تكلموا على المصالح والمفاسد وسد الذرائع والقواعد التي تشمل كلاً منها، ومثّلوا بصور عديدة، وفصّلوا وعدّدوا متى يكون فيها الاعتبار أو الإلغاء.
|
وأفاض: لقد قرأت عدة بحوث في موضوع الاختلاط وتوصلت إلى أن الاتجاه الرافض يضرب صفحاً عن الدليل المقابل المُلزم فهو يصد عنه بمكابرة واضحة، والذي يظهر أن أدلة الاختلاط بالشروط السابقة واضحة وجليّة وتدل على أن الاختلاط، (وليس الخلوة، أو التجمع لأجل التجمع فقط، أو أن تغشى المرأة أماكن الرجال)، يعدُّ جائزاً بضوابط التحشم، مع أمن الشر والفتنة؛ وتقدير حصول ذلك من عدمه لا يخضع للاجتهادات الفردية وتباين الآراء الشخصية فيه، وانفلات العقد العلمي، بقيل وقال من عالم وجاهل ومتوجس وقاصر في مداركه ومتعالم، بل لرأي صاحب القرار المحمول على الأصل في الدين والخلق بعد الاطلاع على المسألة وما فيها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذا: (استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك)، والقاعدة تقرر أن: (حكم الحاكم يرفع الخلاف) وما يجوز اليوم قد يمنع غداً لمتغيرات قد تخل بالمقصود، لكن أكرر: يقدر هذا المسؤول ويحاسبه ولي الأمر وهو في مسؤوليته وذمته أمام الله عز وجل، وهذا مصدر الثقة والطمأنينة، لكن مصدر الخطورة في تصدير البعض لأنفسهم وفرضهم الرأي أو الوصاية على الناس، أو التشكيك في إخوان لهم لا يقلّون عنهم أبداً في الغيرة على الحُرُمَات، وتقدير الأمور, وهذا يجب الحذر منه لأنّه يحمل السفهاء على الجهل والحمق وإغراء الغوغاء والسذج.
|
وأسهب الشيخ عبد اللطيف بأن هناك الكثير من الأدلة التي يصعب حصرها ويستحيل إنكارها أو مقاومتها أو القدح في صحتها موصلة للمراد في هذه المسألة رواية ودراية، ولا يعترضها إلا أحاديث قليلة جداً إنما جاءت لتكريم المرأة، وعدم السماح بمضايقتها، أو أن المقصود به التمازج والاشتباك أو الخوف الواضح منه لضيق المكان مثلاً، أو تنظيم أداء العبادة وفق درجة كل من الجنسين، وأي أمر يبيح الاحتكاك والاشتباك بين الرجال وبين النساء فإنّه محرمٌ ومنكرٌ كبير، ولا يسمح به مسلم، ولا يسوغُ نظاماً إلا في دور الفسق والفحش، وأنّه ما لم يُقلْ بهذا فإنَّ تعارض الأدلة سيكون حتماً قائماً دونما حلّ، وقال: بإمكاننا بنظرة عابرة أن نذكر أن قد نهانا ربنا عن النظرة المحرمة ونهى شقيقتنا المرأة عنها وعن الزينة وخضوعها بالقول عند التحدث مع الأجانب؛ فكيف يصير هذا من دون الاختلاط.
|
وختم بأنّ التعليمات التي تشير إلى الاختلاط، محمولةٌ على التفصيل المنوّه عنه، وأنّ إطلاق العبارة في هذا محمولٌ من جهة أخرى على ما ترسخ في أذهان الناس من الاختلاط المحرم الذي لا يمكن تسويغه ولا قبوله وإن أظهر المطالب به حسنَ نيّة؛ فإنّه بحسبان سياقه يثيرُ الريبة وغلبةَ الظن في حصول المحذور، بعكس ما يطالب به أهل الوسوسة وسوء الظن .
|
|