دائمأ ما تُثار الأسئلة وتُرفع علامات الاستفهام عندما يحاول البعض تصوير العلاقة الودية بين الثقافة والسلطة على أنها توافق يدخل في مسار العلاقات الطبيعية في المجتمع، فمسألة الثقافة وعلاقتها بالسلطة والسياسة أزلية وتبدأ فصولها منذ القدم ومنذ خروج التكوينات البدائية في تنظيم حياة البشر، وكان أفلاطون أول من وضع تصوراً لها عندما طرح الفلسفة كمنهج سياسي إلى أبعد مدى، وهذا ما عبّر عنه في كتاب الجمهورية، إذ تطلّع إلى تأسيس السياسة طبقاً للمثل الفلسفية، وأن تكون السياسة ثمرة لآخر إبداعات العقل والفلسفة والثقافة.
لكن التاريخ لم يستجب لتلك الرؤية، وظلت العلاقة بين الثقافة والسلطة تشوبها القراءات الخاطئة والمصالح الشخصية، لكنها بشكل عام لم تصل إلى حالة الأمان والاستقرار، وذلك لأن مفهوم السلطة المطلقة في الثقافة يعني الاستبداد، ولعل آخر تلك الصور التي تعبر عن هذه الرؤية ما أثاره الكاتب الإسباني البارز خوان غويتيسولو عندما أعلن رفضه (جائزة القذافي العالميّة للأدب)، وهي جائزة تأسست عام 2007 وتُمنح للأدباء الذين (يسهمون بكتاباتهم في الدفاع عن حقوق الإنسان وعن القيم الإنسانية)، وتقدَّر قيمتها بـ150 ألف يورو (200 ألف دولار) و كان غويتيسلو قد قاوم فرانكو فكيف يقبل جائزة القذّافي على حد تعبيره!!..
تشترك الثقافة والسياسة في أنهما عبارة عن وسائل في سبيل تحقيق الغاية، لكنهما من النادر أن يتفقا على نفس الغاية، ولكن قد تتفق غايتهما في مرحلة زمنية محددة لكنها ما تلبث إلا أن تفترق وتحدث المصادمة بينهما في مستقبل الأيام، والسبب لأن الثقافة أو الفلسفة تمثل رؤى فكرية نابعة من أخلاق ومواقف غير نخبوية، وإن صدرت من خلال لغة نخبوية ومستعصية الفهم، بينما قد تعني السياسة كيفية تحويل المصالح العامة إلى خاصة، لكن هناك من يعتبر أن ميكافيلي كان خروجاً سافراً عن هذا النهج، فقد كان المؤسس الأول لدور السياسي الثقافي أي الثقافة المسيسة بمصالح الحاكم.
لذلك يُقال عن المثقف الذي يتقرب من السلطة أنه ميكافيلي أو انتهازي، وقد يعتبرها البعض وصفاً سلبياً، لكنها رؤية حسب وجهة نظري قد تفتقد أحياناً للعمق، فصاحب كتاب الأمير حقق من نصائحه للسلطة ثورة استثنائية في التاريخ، إذ يُسجل له أنه كان من أوائل المفكرين الذين طالبوا بوضوح إبعاد المؤسسة الدينية عن الحكم، وكانت مثل هذه الأفكار في تلك القرون، لها عواقبها الوخيمة، وقد يدفع المفكر حياته ثمناً لها...، ولكي يتحقق ذلك كان ميكافيلي ينصح أميره أن يكون مستبداً وطاغياً من أجل إلغاء السلطة الدينية..
قبل ثورة الحداثة الغربية هيمنت على الدولة في أوروبا التحالف الثنائي الشهير بين الكنيسة والحكم، في سياسة أطلق عليها اتحاد أو تحالف سلطة السيف: سيف الكنيسة وسيف الملك.. وخلال تلك الأزمنة لم توجد أهمية لمؤسسات الدولة ذات الصلة الوثيقة بمصالح العامة، وكانت المؤسسة الدينية إذا تعرضت للضعف في فترة زمنية، تقوى شوكة السياسي.. ويحدث العكس وهكذا..، وكانت الرابطة بينهما تقررها علاقة تأرجح تحكمها الغايات والمصالح بين المؤسستين، لذلك كان ما فعله ميكافيلي يعتبر ثورة بكل المقاييس التاريخية، فقد أدت نصائحه إلى القطيعة بين المؤسستين، وإلى أن يكون الوطن أولاً، وأن يلجأ السياسي إلى الوسائل العقلية من أجل المحافظة على الدولة..
لكن لا يمكن أن يُقرأ تاريخ الثقافة والسياسة فقط من خلال ميكافيلي، فقد كان الاستثناء الذي خالف القاعدة، ولن تكون لنصائحه أي أثر لو لم تجد الآذان الصاغية، لكن الموقف التاريخي من الثقافة يدل على أن معظم المثقفين كانوا يؤدون أدوارهم خارج فناء السلطة، بل عمل بعضهم على تأسيس سلطات مناهضة للاستبداد والطغيان من خلال رفع مستوى الوعي بالحقوق الطبيعية.. في التاريخ العربي الحديث حدث محاولات لدمج المثقف مع السياسي في شخصية السلطان، وكان ذلك جلياً في سيرة الرئيس العراقي صدام حسين والقائد الليبي معمر القذافي، واللذين قدما أعمالاً أدبية وروايات وكتبا، ويذكر التاريخ أنهما يهتمان بعقد المحافل الأدبية، ويهتمان بالحضور والمشاركة بفعالية في المهرجانات الثقافية، وقد كان آخر هذه المهرجانات مؤتمر للاتحاد العام للكتاب والأدباء العرب في حضرة العقيد معمر القذافي في مدينة سرت الليبية، وحفل المؤتمر بفعاليات تمجد الصمود العربي، وأيضاً تدعو لحرية الإنسان وتحرير العقل العربي..!، لكن التجارب الحديثة في الدولة العربية المعاصرة دلت بوضوح على أن محاولات عقلنة السياسة نصيبها الفشل ما لم يرافقها منهج إصلاحي قويم..