Al Jazirah NewsPaper Thursday  29/10/2009 G Issue 13545
الخميس 10 ذو القعدة 1430   العدد  13545
لما هو آتٍ
لكِ وحدكِ
د. خيرية إبراهيم السقاف

 

أتذكركِ جيداً عندما جلست إليكِ تلك الباكية بحرقة.., لم أكن قد شهدتُ مثلها، فاستنطقَتْ مكامنِ الاختزان في دخلتي.., طويتُ يومها وجهها ونحيبها في تلافيف صدري.., وعبرت من ثمَّ بي الأيام..

في تلك الساعة التي كانت ترتجف نحيباً تلك السيدة.., فلأن ابنها كما أتذكر ابن الثالثة, قد احترق بجمر الموقد الشتائي الذي كانت تلتئم بجواره بأطرافها الراعشة من زمهرير شتاء الرياض, وحولها صغارها..أما زوجها لم يكن ليعبأ بالشتاء.., ولا بجمر المدفأة..

هناك حسب آخر بحَّة في نحيبها اعتمرت جوفي كانت تقول: (يتجه لخارج الدار لا يعبأ ببرد.., ولا بدفء)..,

لم تكن تدري إلى أين كان يذهب.., الأمر الذي لم تستطع معه إنقاذ صغيرها من الحروق.., وانطفأت الجمرات في جسده الناحل.., وفُضَّت عن صدره الروح..

مرت أيام.., وأنتِ تأخذين كل ما تحبين من فاكهتكِ، وثيابكِ.., ونقودكِ.., وأشياء صغيرة كنتِ تدسينها في مخابئ أدراجنا.., لصغارها.., وتعديننا بغيرها حالما تذهبين للتسوق، وكنتِ الوفية لوعدكِ.., إذ لم يكن يمر يوم وآخر, إلا تكونين قد عبأتِ مخابئنا بما تشتهي نفوسنا, وتطيب له ذائقتنا.., بعدها تعلمنا منكِ, كيف هو المعادل الملموس الذي يفيض به كرمكِ.., فكيف سيكون كرم الله تعالى الأكثر, الأندى، الأوفر؟..

علق من تلك الكوامن في دخيلتي وجه الباكية بحرقة وليدها المجتمر..،

وثمة جُمل كلامٍ سمعتها منكِ, ولما بعد تغادرني أبداً، كنتِ قد صببتِها في أذنيها، عندما حملتِ معها جسد الصغير, لوداع أخير، تلك الجمل التي تتنامى كثيراً, ودوماً، تتسع، فتفرش المدى، تكبر, فتظلل الرؤى، تغور, فتروي الجذور كلماتكِ هي: (أدري بأن بصمة النار في جسده، ثقاب الحريق في داخلكِ، وأن روحه الطاهرة فاضت لربها، غير أن روحكِ ماثلة في صدركِ.., ولن تطفأ هذه الحريق فيها، إلا حين تتطهرين من الثقاب.., ونية الجمر فيك.., زوجك المغادر.., لن يعوضك القهر منه، القهر على وليدك، ولن يعيد وليدك.., التمسك بعودة زوجكِ..)..

لم أع حينها مدلول هذا الحجم في كلامكِ..

وأمام كلِّ حالة حريق في صدور المقهورات، أستعيد ما اختزن من حكمكِ..

بالأمس نوَّارتي.., عادت لي مكامني بنحيبها، بوقيد الجمر في حرقتها، بفقدها المزدوج، وأنا أقرأ رسالة، وردتني من امرأة، أحرقت نفسها, ونحب حولها صغارها.., لأن ثمَّة ثقاباً مشتعلاً رمى به زوجها عند باب الدار.., وتركها تصطلي النار..

تُرى كم من المحروقين..؟

وصدى النحيب يصك أذنيَّ..

والشتاء مقبل على أبواب الحطب..




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد