حوار - عبدالحفيظ الشمري:
توج حضور الأديب القاص فهد الخليوي بوصفه أحد أقطاب الكتابة السردية بما بات يعرف بالمدرسة السردية الأولى، حيث بدأت تجربته أوائل التسعينيات الهجرية، مع انضمامه ضمن الأسماء الإبداعية المميزة في بلادنا.. تلك التي سعت إلى التطوير في الشكل الفني للقصة القصيرة مع إبقائها على المضامين الكلاسيكية حتى وقت قريب.
واتسمت تجربة هذا الجيل الذي ينتسب إليه ضيفنا فهد الخليوي بصنع إطار أو مشهد جديد عرفت فيه التجربة بمرحلة التأسيس، وباتت تدرس، وتناقش تذوقياً وأكاديمياً باعتبارها حالة وعي إبداعي جديدة تستحق المتابعة والتأمل.
وضيفنا في هذا الحوار -القاص فهد الخليوي- يمثل حالة نوعية أسهمت في تقديم عطاء أدبي يجدر فيه أن يكون علامة مميزة في المشروع الأدبي والإبداعي لدينا، وحول جملة من القضايا الثقافية، والمطارحات الفنية، والتقنية في مشروع القصة الحديث كان لنا هذا الحوار معه ليسلط الضوء بوصفه شاهداً على مراحل التحول والبناء:
* أستاذ فهد.. نود أن تحدثنا عن البدايات الأولى لتجربتكم مع الأدب والإبداع.. وما هي الأسس التي انطلقتم منها؟
- تجربتي الأدبية بدأت في منتصف السبعينيات، وهي جزء من منظومة تجارب مشرقة، تبنت هموما وآمالا إنسانية، وقادها طموح التغيير على مستوى الإبداع والفكر.
لقد نضجت تلك التجارب وتجاوزت مراحل سبقتها، حيث شهدت ساحتنا الأدبية في مرحلة السبعينيات انفتاحا على إبداعات العالم وتقنيات أساليبه التعبيرية الجديدة، كفن القصة القصيرة الحديثة، التي كتبها كل من: عبدالله السالمي، وسليمان سندي، وعبدالعزيز مشري، وجبير المليحان، ومحمد علوان، وجارالله الحميد، وحسين علي حسين، وعبدالله باخشوين وغيرهم.
وهؤلاء تربطني مع معظمهم صداقات عميقة، وكنا نلتقي ونتبادل قراءة بعض الكتب التي يصعب وجودها (محليا) ويجلبها بعض الأصدقاء عندما يسافرون إلى الخارج، كنا نقيم أمسيات أدبية وثقافية داخل بيوتنا تمتد إلى ساعة متأخرة من الليل، ونتحاور بحماس حول ما قرأناه، لنجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وزكريا ثامر، وكافكا، وجويس، ودوستوفسكي، وسارتر، وغيرهم من المبدعين الكبار في العالم.
وقد تعرض ذلك الطموح الجمعي لانكسارات مؤلمة في ظل ثقافة الصراخ والظلام، التي فرضها الصوت الأحادي الممعن في تعنته الإقصائي وسيطرته على منابر التعبير وقنوات الإعلام!!
لم يكن همي في تلك المرحلة، أن أصبح كاتب قصة قصيرة فحسب، بل كان همي الغالب هو نشر ما يتصل بالإبداع الجديد المخالف لما هو سائد في الساحة الثقافية المحلية، وقد تحقق لي ذلك عبر صفحات الملحق الثقافي في مجلة (اقرأ) الذي كنت أشرف على تحريره.
كنت مهتما بنشر أطياف مختارة من نماذج الإبداع العربي والعالمي، بأمل تحريك ساحتنا الثقافية من ركودها وانقطاعها عن الاتصال والتفاعل مع الإبداعات العربية والعالمية التي سبقتنا في التجربة والزمان.
* عودتك للكتابة لا زالت مقتضبة جداً.. لماذا؟
- الاقتضاب، أو الإسهاب في الكتابة تحكمه عوامل نفسية لدى كل كاتب، بالنسبة لي لا أميل إلى التساهل والإسهال في الكتابة، حتى لو أثر ذلك سلبا على هامش حضوري في الساحة الأدبية.
* الخليوي قامة قصصية مديدة، وصوت أدبي وثقافي مميز.. ماذا أعطاك الأدب والإبداع؟ وماذا أخذ منك؟
- أعطاني الأدب والإبداع عمرا فتيا وحياة زاخرة بالدهشة والتنوع والجمال، وأخذ مني عمرا شائخا، كان مكبلا بمسلمات فارغة ومفروضة سلفا. وجدت في قراءة الأدب وكتابة الإبداع عمقا خلاصيا، فكلما قرأت كتابا جديدا أشعر وكأن الفضاء الإنساني يفتح أمامي نافذة جديدة ورؤية متجددة.
* كيف ترى الآن هذه الهجمة الروائية المتجلية في هياجها ووفرتها؟
- تذكرني هذه الهجمة الروائية بهجمة القصة القصيرة عند بداية ظهورها في مرحلة سابقة، حيث ظهر في الساحة الأدبية لدينا على مدى ثلاثين عاما العشرات من كتاب القصة القصيرة، ثم انطفأ معظمهم وفي نهاية المطاف لم تظفر الساحة إلا بعدد قليل من كتاب القصة الحقيقيين.
* هل كتابة (القصة القصيرة جدا) مشروع آخر لقصيدة النثر أم هي تداخل عَرَضِيٌ على أجناس أخرى؟
- القصة القصيرة جداً، سرد مقتضب يختزل الحدث والفكرة داخل إطار صورة مكثفة وعبر لغة مرمزة لماحة شديدة الإتقان بشاعريتها ودلالاتها. وفن كتابة القصة القصيرة جداً، ليس عرضياً أو عابراً، بل هو فن مدهش وجزء نابض من بحر السرد المتعارف عليه وشكل متقدم من أشكاله، وأهم كتاب مرجعي أسس لفن كتابة القصة القصيرة جدا في العالم، هو كتاب (انفعالات) للروائية المشهورة نتالي ساروت، الصادر عام 1932م وتضمن مجموعة من القصص القصيرة جدا، لنتالي ساروت، وللأسف أن هذا الكتاب لم يترجم للعربية إلا بعد مرور أربعين عاما على صدوره.
لقد أصبحت (القصة القصيرة جدا) تيارا إبداعيا حقق انتشارا واسعا، وأثبت حضورا مؤثرا في الساحة الأدبية العربية، برغم أن بعض النقاد وكتاب السرد، لازالوا يبدون تذمرهم لدرجة الرفض لهذا التيار، وهذا الرفض بطبيعة الحال ليس مستغربا عندما يشرق إبداع جديد لم يكن معروفا في فضاء الأدب العربي، وقد تكرر نفس الرفض في الماضي ضد قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر.
* ما علاقتك بالنقد؟ وكيف تعامل النقد مع تجربتك القصصية؟
- استفدت كثيرا من نقد تجربتي القصصية، خصوصا عندما فكرت بإصدار مجموعة قصصية، إذ تجاهلت الكثير من النصوص التي كتبتها في فترات مختلفة ولم أنشرها ضمن مجموعتي التي صدرت في العام الماضي بعنوان: (رياح وأجراس).
* رغم أنكم رواد في الحقل القصصي إلا أنكم متهمون بالتباطؤ والهدوء في نشر إنتاجكم.. وهو سؤال يشمل كل زملائك في تلك المرحلة.. لماذا؟
- مسألة التباطؤ عند بعض الأدباء في نشر أعمالهم، هي مسألة مرتبطة بقناعاتهم وبما يستحق نشره من إنتاجهم وطبعه بين دفتي كتاب.
بالنسبة لي انتهيت من إنجاز مجموعتي القصصية الثانية التي ستصدر قريبا.
* فهد الخليوي .. متى تكتب الرواية؟ ألم يحن الوقت بعد؟
- لدي محاولة روائية قديمة، كتبت فصولها الأولى منذ فترة طويلة ولا زلت منهمكا في مراجعتها واستكمال فصولها الأخيرة.
* رجاء عالم وتركي الحمد وقبلهما عبدالرحمن منيف عكفوا على مشروع المكان وأسسوا له في الفن الروائي المحلي.. كيف ترى تجربتهم؟
- رجاء عالم، قرأت مؤخرا عملها (ستر) في هذا العمل أدهشتني رجاء، بلغتها الباهرة وبتقنياتها الفنية العالية، التي تنم عن تجربة كبيرة وخصبة.
- تركي الحمد، لم أقرأ رواياته لعدم حصولي عليها، لكنني قرأت بعض أطروحاته الفكرية العميقة المتسمة بالجرأة والوضوح.
- تركي الحمد، مفكر تنويري جاد، وخطابه الفكري يحمل طموحات كبيرة وإن بدت بعيدة التحقق في ظل واقعنا القاتم.
- عبد الرحمن المنيف، مبدع كبير، وتجربته الأدبية متعددة في مناخاتها وفصولها، وهو برأيي روائي عربي وعالمي، ترجمت أعماله للعديد من لغات العالم وخلفت أصداء كبيرة ومؤثرة.
* جبير المليحان وتركي العسيري وناصر العديلي.. كيف تتقاطع تجربتك معهم؟ وكيف ترى إنتاجهم الآن؟
- زمنياً تجربتي بدأت في المرحلة التي بدأ فيها كل من جبير المليحان، وتركي العسيري، وناصر العديلي معاناة ومتعة الكتابة.
المليحان، أكثر منا تفانيا وإخلاصا للقصة القصيرة حيث أعطاها جل وقته واهتمامه عبر موقعه الالكتروني الشهير (شبكة القصة العربية) والذي يعتبره كثير من الباحثين والنقاد مرجعا مهما في دراسة القصة العربية بمختلف مراحلها.
* ما الذي بقي من عطاء وإبداع عبدالعزيز مشري يرحمه الله؟
- يظل العطاء الإبداعي الذي تركه لنا عبدالعزيز مشري راسخا ومتجددا في الذاكرة.
لقد عرفت المشري عن قرب صديقا وفيا، ومبدعا كبيرا في مجال السرد وفنونه. بدأت علاقتي مع الراحل منذ أكثر من ثلاثين عاما، حيث كان يراسلني من الدمام ويبعث لي بعض نصوصه القصصية لنشرها في صفحات مجلة (اقرأ) الثقافية، ولا زلت أحتفظ برسالة له يعود تاريخها إلى عام 1397هجري.
وعندما استقر في مدينة جدة توطدت صداقتنا أكثر، كنت أزوره كثيرا في منزله الكائن في المنطقة الصناعية شمال جدة، ويستقبلني في مكتبته التي هي نفسها غرفة نومه، وهي غرفة نظيفة وأنيقة، تكتظ بمئات الكتب المرتبة فوق أرفف بيضاء، وفي ركن الغرفة طاولة عليها أوعية محابر وريشة رسم، وبجوارها آلة عود وزهور موضوعة في أوان صغيرة، وقد أهداني لوحة من أعماله التشكيلية، وذات مرة استعرت من مكتبته رواية محمد شكري (الخبز الحافي) وهي نسخة خاصة مهداة بتوقيع محمد شكري إليه، وكنت حريصا على قراءتها بأسرع وقت ممكن وإعادتها. لكن عبدالعزيز مشري، رحل عن دنيانا إلى جوار ربه قبل أن أعيد إليه الرواية.
* الرائد الرائع إبراهيم الناصر الحميدان.. كيف هي الآن رؤيتك لأدبه وفنه القصصي والسردي بعد تعدد التجارب وكثرة الكتاب؟
- إبراهيم الناصر، رائد وأستاذ كبير في مجال الأدب المحلي، وهو من جيل الستينيات الذي سبق جيلنا تاريخيا في ريادة كتابة القصة، من أمثال أحمد السباعي، وعصام خوقير، وحامد دمنهوري وغيرهم.
إلا أن التجارب السردية التي جاءت بعد تجربة الرواد، تطورت كثيرا عن نسق القصة التقليدية، من خلال استخدام تقنيات فنية حديثة وطرح رؤى جديدة للفن والواقع.
* هل كتبت للطفل؟ وما هي مشاريعك المستقبلية له؟
- الكتابة للطفل، تتطلب موهبة كبيرة، ولا تؤخذ بالبساطة التي يتصورها البعض. الطفل ناصع في براءته، ومدهش في أحلامه، وكبير في طرح تساؤلاته الصعبة. حاولت أن أكتب للطفل وبصراحة فشلت.
* هل ربح الإبداع رهانه الأدبي على الحداثة؟ وهل طور في الفن القصصي بما يكفي؟
- الحداثة جاءت إلينا من عمق الحضارة الجديدة، التي هيمنت على العالم بأطروحاتها الفكرية الإنسانية، ومنجزاتها التكنولوجية العظيمة، بمعنى أن الحداثة وفدت إلينا بهدف التغيير الشامل للكثير من الأنماط المتخلفة التي تجاوزها الزمن، إلا أن مجتمعنا المتشبث بعادات الصحراء برغم نزوحه إلى المدن الحديثة، لم يكن مهيئاً للاستجابة والتفاعل مع معطيات الحداثة، و ظلت الاستجابة لأفكار الحداثة ولجوهر رسالتها الشمولية استجابة محدودة ومحصورة في مجال الأدب، وقد ربح الإبداع المحلي منذ السبعينيات رهانه على الحداثة وتطورت بالفعل أساليب السرد، وكتبت القصة القصيرة بتقنيات فنية جديدة، ومضامين معبرة عن روح العصر.
* كيف ترى دور الترجمة في خدمة أدبنا وقصصنا ورواياتنا لا سيما في هذه الأيام؟
- الترجمة جسر حضاري وثقافي فاعل، استفاد منه العرب قديما في عصر المأمون، و كانت تلك الحقبة الزمنية الزاهرة مصدر إشعاع حضاري أعطت نتاجا معرفيا غزيرا، وفي العصر الحديث خصوصا في مجال الأدب، ترجمت نماذج لكبار المبدعين العرب إلى العديد من اللغات الحية كأعمال نجيب محفوظ، والطيب صالح، وحنا مينا، وعبد الرحمن المنيف وغيرهم. وقد حصد الأدب العربي لأول مرة في تاريخه جائزة (نوبل) من خلال الإبداعات الروائية التي ترجمت لنجيب محفوظ. ولا شك بأن ترجمة بعض الأعمال الأدبية المحلية الجيدة، ستساهم مساهمة إيجابية في تعريف الآخر واطلاعه على الملامح المضيئة في أدبنا المحلي.