قبل عشر سنوات في احد معارض الكتاب العربية اشتريت مجموعة كبيرة من كتب غادة السمان التي أسمتها (الأعمال غير الكاملة)، حينها أخبرني مندوب دار النشر، بأن هنالك عرضا من غادة لمن يشتري مجموعة كبيرة من كتبها ستبعث له كتابها الجديد موقعاً منها باسمه شخصياً، ووعدني بأنه سيبعثه لي حالما يصدر. حينذاك كنت أكتشف شغفي الأول بغادة كفكر وأدب وأسلوب جميل في الكتابة متمرد على السائد، وظللت بعدها لسنوات أنتظر الكتاب الموقع ولم يصل بعد، ثم أخذتني الحياة في متاهات ودروب كثيرة ونسيته.
لقد جافتني رغبة القراءة بعد وفاة والدي لأسباب مجهولة عني حتى بدأت استعيدها على جرعات على ضفاف نهر تشاريز الذي يفصل مدينة بوسطن عن مدينة كامبريدج الأميركية. في مشاوير القطار التي لا مناص عنها، بدأت أرغم نفسي على معاودة القراءة حتى بدأت أعشقها بل أدمنت فيما بعد القراءة في قطار! وفي مكتبة بوسطن العامة اكتشفت ثروة من الكتب العربية التي لا تقدر بثمن، وجدت من الكتب ما لم أتمكن من العثور عليه في مكتباتنا داخل الوطن وحتى في المكتبات الوطنية العامة وحتى المكتبة الجامعية التي تكاد تفتقر إلى الكتب الحديثة.
وهنا كانت فرحتي الطفولية كبيرة حينما طالعتني مجموعة كتب غادة السمان على أحد رفوف المكتبة في قسم الكتب العربية، على الرغم من أنني أمتلك مجموعة كبيرة منها أسعدني أن أعثر على المجموعة المتبقية التي لم أقرأها بعد. حالة حنين لسنوات كانت زيارة لمعرض الكتاب تعادل فرحة زيارة مدينة الألعاب عندي!.
باعتقادي ثقافة المكتبات العامة غريبة عنا في الداخل، الكتب عندي ارتبطت على الدوام بالشراء، فإذا رغبت في قراءة كتاب أبحث عنه بنفسي في المكتبات المحلية والتي كثيراً منها تفتقر للكتب الحديثة وتقتصر على بيع مجلات الأطفال وقصص الجيب وكتب السيرة والنصيحة ومؤلفات تجارية من هنا وهناك. لا أتذكر أنني استمتعت بالقراءة في مكتبة المدرسة، التي تحتوي كتبا كئيبة مصفرة وبالية التي أجزم أن لا أحد يقرؤها سوى كتاب (الحمل والولادة) الشهير في المدارس والذي كان الكتاب الوحيد الذي يثير لدينا فضول الطفولة في المعرفة!
لذا كان منجمي في القراءة وملجئي الوحيد هو معرض الكتاب الدولي، الذي ظلت عاصمتنا الرياض لسنوات طويلة محرومة منه، وحينما سمح بمعرض الكتاب مؤخراً تعالت الأصوات وكثر الضجيج والصخب، ضجيج المعرفة من جهة وضجيج الأوصياء على المعرفة من جهة أخرى!
ربما فعلاً لم نترب على ثقافة المكتبات العامة لأنها غريبة عنا، لأن مكتباتنا الوطنية تفتقر إلى أنظمة جذابة وسهلة توفر المعرفة بأحدث إصداراتها للجميع بدون شروط أو قيود تعسفية، أتذكر في المكتبة الجامعية كان يتطلب تسجيلي لأتمكن من الاستعارة جلب جواز سفري! يقال إننا لا نقرأ والأجدر لمن يقول ذلك أن ينفض الغبار والأتربة عن رفوف المكتبات العامة الوطنية في أوطاننا العربية! بينما الاشتراك والاستعارة في مكتبات مثل مكتبة بوسطن العامة، يتطلب فقط اثبات أنك من سكان الولاية كرسالة من بنك أو جهة رسمية عليها اسمك وعنوانك، كي يسمح لك بالاستعارة بلا ثمن مقدم أو شروط تقيد عدد الكتب المسموح باستعارتها كل مرة. كما أن مكتبات جامعة هارفارد الغنية بكل ما تحمله الثقافة والعلم وباصدارات حديثة في شتى اللغات متاحة للجميع للطلاب والباحثين الزائرين بلا كلفة.
كانت فرحتي قصوى وأنا أحتضن نسخة من رواية (شقة الحرية) لغازي القصيبي، على الرغم من أنني كنت قد قرأتها من سنوات وأحتفظ بنسخة منها في مكتبة منزلنا، لكن رؤيتها هنا على رف مكتبة بوسطن العامة، أثار فيّ الكثير من الحنين والفرح، وكأنني وجدت نافذة سحرية انفتحت على الوطن.
صادف في سنتي الأولى في الجامعة أن أقيم معرض الكتاب الدولي في الشارقة، ذهبت إلى المعرض وصادفت نفس المندوب الذي وعدني بكتاب غادة الجديد الموقع باسمي، وحينما قابلته حياني وقال إنه لم ينس لكن الكتاب لم يصدر بعد. فقررت أن أبعث لغادة السمان بهدية كانت عبارة عن دمية على هيئة جمل من الصحراء وأشياء أخرى وأرفقتها برسالة كتبت فيها: أعرف أنك تحبين البوم لكن الجمل حيوان الصحراء وبما أنني من الصحراء أبعث إليك بشيء منها. وأعطيتها المندوب عن دار النشر وطلبت منه أن يوصلها لغادة، مرت شهور بل سنوات ولم أتلق رداً، وفطنت فيما بعد بأنني لم أرفق عنواني مع الرسالة! لا أعرف إن كانت غادة السمان قد استلمت الهدية، لكن وأنا أعاود الآن اكتشاف غادة السمان في كتابها (البحر يحاكم سمكة) ودتت أن أقول لها: كيف أنت يا غادة؟ يكفي أن عنوان زاويتي هو نصف عنوان كتابك الذي معي في حقيبتي (الجسد حقيبة سفر). الآن أصبح لدي مجموعة خاصة من الكتب المهداة من كُتّاب وأصدقاء أعتز بمعرفتهم، لكن مازلت أنتظر كتاباً يصلني مهدى من غادة السمان.