مناقشة مصطلح (القِصَّة القصيرة جدًّا) تلفتنا إلى ما هو أكثر أهميّة منه، وهو النظر في طبيعة النصوص نفسها المندرجة تحت هذا المصطلح، من حيث كونها تتّصف بالقصصيّة أصلاً أو لا تتّصف؟ ما قد يدعو إلى تصنيف بعضها تحت مصطلح آخر، هو: (قَصِيْصَة)، (بقاف مفتوحة وصاد مكسورة)، تركيبًا نحتيًّا من (قصيدة-قِصّة)؛ لأن ما يُسمّى القِصّة القصيرة جِدًّا هو أحيانًا قصيدة نثرٍ في قِصّة قصيرة جِدًّا، أو قِصّة قصيرة جِدًّا في قصيدة نثرٍ- لا فرق- في تزاوجٍ يجعل الفارق بين هذين النوعين شفّافًا جِدًّا، حتى لا يكاد يميّز القِصّة القصيرة جِدًّا سوى التزامها حكائيّةً ما، في حين لا يلزم ذلك قصيدة النثر. كما أن بعض الشِّعر لا يميّزه عن النثر سوى الإيقاع، والإيقاع وحده لا يكفي الشِّعر شِعريّته، كما أن ليس فقدانه هو ما يسلب الشِّعر شِعريّته بالكليّة ويهوي بالنص إلى النثريّة بالضرورة. وإنما الإيقاع عنصر فارق رئيس في الشِّعر، كما يجب أن تكون الحكائيّة عنصرًا مائزًا رئيسًا لكلّ ما يندرج تحت اسم (قِصّةٍ)، طالتْ أم قصرت. ولكي نختبر هذه الحقيقة، يمكن أن ننظر في نصٍّ لشاعر لا شكّ في شِعريّته ولا في تجربته الغنيّة، وهو محمود درويش. وليكن نصّه بعنوان (لا أعرف الشخص الغريب)(1). وحين نتسأل أمام نص كذاك: أهو قصيدة أصلاً، أم قصّة (قصيرة جِدًّا) ذات إيقاع تفعيليّ؟
بل أهو نصّ شِعريّ (لغويًّا)، أم نصّ نثريّ؟
أين الشِّعريّ فيه من النثريّ؟
ثم لو جرّبت إزالة الإيقاع التفعيليّ عنه، فماذا سيبقى من شِعريّته؟
نكتشف أنه سيصبح بتجريده من الإيقاع التفعيليّ في شكل قِصّة قصيرة جِدًّا.
فماذا يعني هذا؟
إنه يعني أن أرباب قصيدة النثر على حقّ حينما يحتجّون بأن الإيقاع الموسيقيّ ليس كلّ شيء في الشِّعر، وأن بعض النصوص لو أُذهبت عنها التفعيلة لصارت نثرًا صِرفًا، في خواء عن اشتغالها على اللغة والصورة. ونصّ درويش برهان على صحّة تلك الحُجّة؛ فما الذي يبقى فيه من شِعريّةٍ بعد إلغاء الإيقاع؟ هل تُغنيه عن نثريّته عبارة ك(وجع الحياة)، أو (يطوي ظلّه)، أو (لا برق يلمع في اسمه)، أو (تُهْتُ في قلبي)؟ وهي صيغ تعبيريّة باتت اعتياديّة، لا ماء شِعريًّا يُذكر فيها، حتى إن عبارة (تُهْتُ في قلبي) إنما هي: (تُهْتُ في أسئلة قلبي)، اقتضت قسريّة التفعيلة فيها حذف كلمة (أسئلة). أم هل يُسمن النصّ شِعريًّا سطره الأخير:
... لكنَّ أَمرًا ما إلهيًّا يُؤَجِّلُها لأسبابٍ عديدةْ
من بينها: خطأ كبير في القصيدةْ!
هل ينقذ شِعريّة النصّ هذا السطر، وإنما ألهمتْ درويشًا به قافيةُ: (... لأسباب عديدة)، في السطر السابق؟
ولقد كان درويش استهلّ مجموعته (كزهر اللوز أو أبعد)، التي منها النصّ المذكور، بمقولة (أبي حيّان التوحيدي)، في (الإمتاع والمؤانسة)، (الليلة الخامسة والعشرين): (أحسن الكلام ما... قامت صورته بين نَظْمٍ كأنه نثر، ونثرٍ كأنه نظم...). وكأن درويشًا أراد أن يستبق بذلك الاقتباس إحساس القارئ بنثريّة بعض نصوص مجموعته تلك. ولكن هل عنى أبو حيّان ب(النظم كأنه النثر) هذا النمط السرديّ الذي تبدّى في نصّ درويش؟ الواقع أنْ ليس نصّ درويش (لا أعرف الشخص الغريب) من قبيل (النظم الذي كأنه نثر، ولا النثر الذي كأنه نظم)، بل هو: (نظمُ نثرٍ، أو نثرٌ منظومٌ إيقاعيًّا)، أو هو بالأحرى: (نثرٌ تفعيليّ)(2)! وهو يضعنا أمام جملة حقائق:
أوْلاها، وأُسّها: أن الخدعة بالشِّعريّة من خلال الموسيقى اللغويّة ليست بخدعة قديمة متّصلة بالبحور والقوافي، بل هي متّصلة بالإيقاع الموسيقيّ عمومًا.
وثانيتها: أن المنزلق الموسيقي الخادع عن عناصر الشِّعريّة الأخرى، لا ينفي أنّ الموسيقى جوهريّة التأثير في منح النصّ اللغويّ حسّه الشِّعريّ، وأنّ المستمسكين بها في البنية الشِّعريّة محقّون في استمساكهم؛ من حيث إنه قد ثبت إضفاؤها سحرها الشِّعريّ، وفعلها في توتير اللغة- البالغ أحيانًا حدّ التَّعْمِيَة على غياب مكوّنات شِعريّة أخرى ضروريّة- وأنّ لها كذلك تأثيرها النفسيّ؛ من حيث إن النفس مسكونة بالإيقاع، بدءًا من نبضات القلب، التي هي أوّل موسيقى تقرع سمع الجنين عن قلب أُمّه، ثم عن قلبه نفسه، وصولاً إلى معايشة نبض الإيقاع الكونيّ على اختلاف ضروبه وأشكاله. وكلّ ما خلق الله موسيقى.
وثالثتها: أن القِصّة القصيرة جِدًّا لا فرادة جنسيّة فيها، إلاّ في خصلتين: (القصصيّة) و(القِصَر). والأُولى هي الأهمّ في إكساب هذا الشكل الكتابيّ هويّته الأُمّ. وهاتان خصلتان لا تستقلّ بهما القِصّة القصيرة جِدًّا، بوصفها جنسًا أدبيًّا، بل هما شائعتان في الأدب عمومًا، يمكن أن تتجلّيا في نصوص أخرى منه، قديمة أو حديثة، نثريّة أو شِعريّة. لأجل ذلك فإن بعض النصوص الشِّ عريّة الحديثة (من شِعر تفعيلة، فضلاً عن قصائد نثر)، لو جُرّدت من الإيقاع، لتحوّلت إلى قِصص قصيرة جِدًّا، كما أن بعض القِصص القصيرة جِدًّا لو زوّدت بلمسات إيقاعيّة، لجاء بعضها أَشْعَر من نصّ درويش المشار إليه!
وعلى غرار تشبّث قصيدة النثر بالشِّعر، يبدو تشبّث بعض أنماط ما يُسمى (القِصّة القصيرة جِدًّا) بالقِصّة، فيما القِصّة في بعضها واهية، أو حتى مفقودة. فهذان الشكلان (القِصّة القصيرة جِدًّا) و(قصيدة النثر) شكلان خارجان على القانون في جنسي الشِّعر والقِصّة، وجمالهما يكمن في خروجهما. غير أن الإشكاليّة تظلّ في المصطلح إن لم يُطابق المصطلح عليه؛ إذ ما يُنسب إلى جنس الشِّعر يجب أن ينتمي إليه، وما يُنسب إلى جنس القَصّ يجب أن ينتمي إليه. فإنْ جاء جنسًا مدجّنًا، وجب أن يأخذ تعريفه المائز وتسميته المستقلّة. أمّا جِدّة النصّ نفسها، التي تشرئبّ إليها الأعناق العربيّة، فما قلناه عن قصيدة النثر من: أنْ ليس ثمة جديد في نصوصها على التراث العربي، لولا تعليق المصطلح(3)، يمكن قوله عن (القِصّة القصيرة جِدًّا).
ولعل إشكاليّة (القصّة القصيرة جدًّا)- وكذا (قصيدة النثر)- تتمثّل عمومًا، إنْ على صعيد النوع أو المصطلح، في غياب المرجعيّة التنظيريّة التراثيّة- على ما ضاع من التراث- فإذا بعض الأشكال التي تحاكي نماذج من آداب أخرى (غربيّة بصفة غالبة) تبدو جديدة على من لا يعرف قديمه. على الرغم من أن تلك الآداب الأخرى تُعدّ ناشئة نسبيًّا، الرواية نفسها فيها متأخّرة المولد، قياسًا إلى تراث (ألف ليلة وليلة)، و(حيّ بن يقظان)، و(التوابع والزوابع)، و(رسالة الغفران)، وغيرها من أنماط الكتابات والمخاطبات والرسائل السرديّة.
ونواصل
1- درويش، محمود، (2005)، كزهر اللوز أو أبعد، (بيروت: رياض الريّس) ، 67- 69.
*. ومن جهةٍ مقابلة لم يجرؤ على تجاوز التفعيلة إلى سواها. بل إنه، حتى في ميدان التفعيلة، قد حَبَس قصيدته في (دائرة المؤتلف أو المتقارب)، من خلال وحدتَي النَّغَم (فاعلن) و(فعولن)، اللتين ذهبتا بمعظم شِعره.
3) انظر: الفَيفي، عبدالله بن أحمد، (2005)، حداثة النص الشِعري في المملكة العربيّة السعوديّة: (قراءة نقديّة في تحوّلات المشهد الإبداعيّ)، (الرياض: النادي الأدبي)، 125- 000.
http:--alfaify.cjb.net
aalfaify@yahoo.com