Al Jazirah NewsPaper Thursday  29/10/2009 G Issue 13545
الخميس 10 ذو القعدة 1430   العدد  13545
(المثقف وإحباطات المساواة) في شخصنة الثقافة
لمياء السويلم

 

إذا كان وصف الحال دليل الشهود عليه، فللحالة الوصفية التي قدمتها الدكتورة لمياء باعشن (المثقف وإحباطات المساواة - جريدة الجزيرة العدد 13517) دليلاً لأكثر من دلالة، وإن كان الوصف أيسر المناهج فإنه من الهمة الصادقة انتهاجه إذا ما شكل اعترافا من قِبل شاهدة فاعلة في الوسط الثقافي تشتغل باسم نقدي مهم.

المساواة كمفهوم ظلت مرتبطة بعناوين الاستنصار في القضايا المظلومة كقضايا المرأة والعنصرية، لكنها بهذه الورقة تنقلب على هذه التاريخية السائدة في الارتباط الذهني، فإذ بها تشكل حالة إحباط تسبيباً ونتيجةً، فهي لم تعد مطلبا ولا مبدأً عادلاً منذ أفرغت من قيمتها وأسقطت كحكم على كثيرٍ من الشؤون الخاسرة في مجالات مختلفة، كشأن التربية في مجالي الأسرة والمدرسة، يعمل بالمساواة فيهما كحل لجميع الاختلافات، من الاختلاف حول كيفية تقييم الانضباط والسلوك إلى الاختلاف حول كيفية فض المشاجرات بين الطلبة، وهو ما يعمل به أيضاً في مختلف الأسر بالحكم على كل طرف في أي اختلاف سواء كان شجاراً طفولياً أو تلاسناً أخوياً بالتساوي في الجزاء عقوبة أو مكافأة دون اعتبار لظرفية المشكلة أو لطبيعة أداء وسلوك الأطراف، ينطبق هذا بدرجة دقيقة كذلك على ذات الشأن التربوي لكنما في المجال الرياضي كحلول لجنة الانضباط في اتحاد القدم عند تصديها لمشاكل اللاعبين والجمهور على السواء، ولعل في هذا جميعه ما يساهم بأثر قوي في تأسيس طرق تفكير تؤمن بالمساواة كحل سلمي لا يحتاج إلى فرز أو تصنيف ولا يتحمل مسؤولية اتخاذ قرار ولا يتعامل مع الأفعال بحسب تفاوتها بل يتهادن مع الفاعلين على أساس تساويهم، وينسحب هذا بوضوح عالٍ على صاحب دار النشر ورئيس التحرير كنموذج ثقافي يعمل بالتسوية، فهما محكومان بطريقة التفكير هذه التي تبرز في إدارتيهما كمثال عند تشغيل عداد الأحرف ومن ثم ضبط المكافأة عليه، عدا عن الساعة الرملية التي يعتمدها أي مدير لأي جلسة حوار أو نشاط ثقافي في تقنين الوقت بدليل تقييده بافتراض أن ضبط الزمن هو أحد أساسيات العمل الاداري.

إن تشكيل المساواة حالة إحباط في المجال الثقافي كان دلالة على اللا وعي الذي يحكم كثيراً من طرق تفكير المثقفين سواء في إدارة وظيفية أو في أي مهمة حرة لأي مشروع خاص، أي أن المثقفين بعمومهم لم يتحرروا ذاتياً لا على المستوى العقلي من طرق تفكير موروثة ولا على المستوى النفسي حين تنعكس هذه الأنماط من التفكير على الأداء الشخصي داخل الوسط، وغير غياب البصيرة عن هذا التوارث لنظام المساواة هنالك الكثير من الدلالات التي نجدها في الحالة الوصيفة التي قدمتها الدكتورة، لعل أخطرها في تلك الدلالة القديمة والمتجددة في بعض من المؤلفات الكبرى في التراث العربي، والتي أعيد نشرها بخمسة عشر جزءاً مكرراً تحت عنونة جديدة لمؤلف جديد دخل التاريخ بمقدمة وتذيل هامشي لعمل غيره، تصطف فيه وباسم (المساواة) مع المؤلف الأصلي على ذات الرف وبذات البنان يشار إليهما متعادلين في وزن الإضافة للمكتبة العربية! وهو ما ورثه باقتدار بعض الكتاب هنا بعمليات القص واللزق في تأليف كتب هامش المراجع فيها أكبر من الكتاب كاملا يتصدر كاتبها قائمة الأكثر مبيعاً ويضاعف أجره قياساً على ذلك ويترأس المنابر بعدها تحت نظام الطلب، كما أن من أقسى الدلالات ما كان عن لعبة التنقل بين قنوات الثقافة من الرواية إلى الشعر إلى النقد وربما إلى الفلسفة، وليس في التجريب حتماً ما ينقص بل مما يزيد صاحبه نضجاً لولا تفعيل لعبة الألقاب حيث كاتب لأربع مقالات وشاعر حداثي لنثر قصيدة ومجموعة خواطر وناقد لورقة رأي يتم تسويتهم وباسم (المساواة) أيضاً بالرواد المكرسين وبالجدي من التجارب الجادة، وخطورة اللعب تكمن في أحد الأمثلة المتكررة حيث أقل التفاتة من أي مراسل ميداني ستحيله إلى محرر ثقافي إلى مدير تحرير يدير سلطة تحكم بالمساواة بين رؤوس الأقلام ورؤوس أصحابها.

والمساواة التي استخدمت في الاستنصار كانت تطالب بتجاوز الاختلافات الخلقية في الحكم على الناس، فالمرأة والرجل والعرق الأبيض والأسمر جميعهم بشر والذي يجب التفريق على أساسه هو الأداء الشخصي لكل منهم، لكنما المساواة التي عمل بها في الشؤون التربوية كانت تساوي بين الأداء الشخصي للطلبة أو الأخوة مما ألغى التفريق تماماً ولم ينقله من الحكم على الإنسان كخلقة بشرية إلى الفرد كفاعل يقدم سلوكيات وأعمال تحتاج إلى التقييم، وهو تماما ما أسس تجاهل النتائج والجهود والتركيز على التسوية فيما بينها بقطع النظر عن القيمة، تجاهلاً كمياً في المرحلة الأولى وكيفياً في المرحلة التالية أي أن التسوية بين شاعر مكرس ومشارك بقصيدة وحيدة كان يلقى تسوية إلى أن أخذ بالتفريق بينهما على أساس الكم لكنه انتهى إلى اعتماد التسوية في الكيف، فأصبح أي تساوي في الكم ينسحب تلقائياً على التساوي في الكيف، وهو ما يزيد التركيز على الشخص بدل الأداء وعلى الذات بدل الجهد فأصبحت كل إدارة فردية أو رسمية تدير شؤونها على أساس المساواة بين الأعمال لا بين الأفراد، أي أنه في النتيجة الأخيرة ستكون المساواة حقاً على غير وجهه، فقيمة التسوية بين الاختلاف الخلقي القدري انتقلت إلى التسوية بين الجهود الفردية والإبداع الشخصي.

كان هنالك الكثير من الدلالات التي لن تستوعبها القراءة هنا لكنما السؤال الذي ربما سيبقى لدى القارئ هو لماذا يقنع المثقف بمختلف أوساطه بهذه الأسباب، هل لأن الثقافة وسط يخضع لموازين الحكم في المجتمع، والمثقف فرد يرث الذهن الجمعي الشعبي ولا يفلتره لأنه يعتقد أن سمة الثقافة وموهبة الإبداع قد فكت ترسبات الطفولة وصراعات المراهقة، ذلك الاعتقاد الخطر الذي يجعله يفرغ توتره النفسي وهاجسه الشخصي في عمله وفي علاقاته بالوسط دون أن يعي، وهل عجز المثقفون عن تكوين وسطهم الثقافي الخاص بعلاقات عملية واهتمامات مشتركة على صورة ناضجة وواعية إشارة ما إلى مشكلة نفسية ناتجة عن خلفيات اجتماعية وجدت محضنها في مجتمع ثقافي عام يشبهها توتراً وعجزاً، كما أن في هذا الخلل تفسيراً أولي للهاث الشديد بين المثقفين على العلاقات ما يؤكد فشلها وربما انعدامها في أوساط المثقف الخارجية، وهو ما يمكن فهمه من قول الدكتورة (ليس للثقافة حجّاب يرحبون، ولا بها رفقاء يفْتَقدون) بأن شراهة البحث عن العلاقات تؤكد أولويتها كهدف يسعى إليه إذ تتقدم فيه على العمل الثقافي والهم الإبداعي، إذاً الداخل الجديد لا يجد من يعلق أو يعقب عليه بأحسنت أو أسأت لأنه لا يعرف من المثقفين إلا أعمالهم، والخارج الخبير لن يجد من يستفقد إبداعه أو حتى أقواله لأن المثقفين لا يعرفونه إلا باسمه لا بأعماله، وقد يشفع لكل منهما حالة وحيدة هي الجندرية، فهل في هذا التركيز على العلاقات ما يعين رؤساء التحرير على المساواة بين الكتاب في المكافأة وما يدفع مديرو الأندية الأدبية إلى استقطاب كلهم بذات الساحة ولذات الفسحة من القول، الآن كلهم يستخدم مسطرة العلاقات في القياس، مسطرة مستقيمة لا تعرف الترقيم إلا بمزاج النفعية الشخصية، وهو دليل قول الدكتورة بأن أي رفض سينتهي باتهام الشللية، دليل يكشف عن اللا وعي الذي حكم المثقف من أن أي قبول أو رفض هو لشخصه أي أنه تجاوز النظر في عمله منذ تأسست معرفيته على المساواة الذاتية بشكلها الانفصالي، فهو مسبقاً لا يسعى إلى إبداعه قدر ما يسعى إلى ذاته لتحضر، لذا لا يشغله (فقدان الروعة لمعانيها) لأنه إذ يطلق الروائع ويجرح المعاني ليس معنياً فيها بل بشخوصها، والعناية بالشخوص على هذا الحد تقول إنها شخصنة الثقافة.



Lamia.swm@gmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد