Al Jazirah NewsPaper Thursday  29/10/2009 G Issue 13545
الخميس 10 ذو القعدة 1430   العدد  13545
كتابات
فخامة (حشمتلو)!
خالد البسام

 

يروي الصحافي المصري الشهير (مصطفى أمين) حكاية طريفة أيام الحكم العثماني لبلاد الشام في بداية القرن العشرين. فوقتها كانت السلطات تخاف من الجرائد وتمارس عليها رقابة شديدة إلى درجة مضحكة.

ففي أحد الأيام جاءت برقية بأن المسيو كارنو رئيس جمهورية فرنسا قد اغتيل في مدينة ليون بضربة من خنجر من يد شاب اسمه (كازاريو).

ورفض الرقيب العثماني أن ينشر أن رئيس الجمهورية اغتيل، وأصر على أن نشر مثل هذا الخبر يؤدي إلى إفهام الناس أنه من الممكن اغتيال السلطان!

وطلب الرقيب من الجرائد الاكتفاء بالقول إن فخامة رئيس جمهورية فرنسا انحرفت صحته! واعترض المحررون كيف يقولون إن صحة الرئيس منحرفة بينما الرئيس موجود الآن في السماء!

وأخيراً قبِل الرقيب أن تنشر الصحف النبأ التالي: (إلى جنان الخلد). (ساءت صحة فخامة رئيس جمهورية فرنسا بسبب تقدمه في السن، فانتقلت روحه إلى بارئها).

وبدأت الصحف تستعد لنشر الخبر كما صرح به الرقيب، وفجأة اتصل البوليس بجميع الصحف وطلب منها أن توقف الطبع! فقد عرض الرقيب الأمر على الوالي التركي. واعترض الوالي على صيغة الخبر! كيف يقال إن رئيس الجمهورية المسيحي ذهب إلى جنان الخلد، والمفروض أن الجنة لا يدخلها إلا المسلمين! ثم كيف يقال إن رئيس الجمهورية مات بسبب تقدمه في السن! إن جلالة السلطان عبدالحميد متقدم في السن، فمعنى ذلك أنه إيحاء للرأي العام بأن السلطان ممكن أن يموت، وفي ذلك إشارة للخواطر وإقلاق للأمن العام!

بعدها أعاد الرقيب كتابة الخبر من جديد، و صدرت صحف بيروت وقد نشرت الخبر التالي: (انتقل فخامة رئيس جمهورية فرنسا إلى رحمة الله).

وفهم الصحفيون حينها أن نشر الخبر بهذه الصيغة قد أرضى ولاة الأمور. ولكن ما كادت الصحف اللبنانية تصل إلى الباب العالي في استانبول حتى قامت الدنيا وقعدت! فقد رأى السلطان عبدالحميد في نشر الخبر بهذه الصورة إهانة للذات العليا العثمانية الشاهانية!

فكيف يسمى رئيس جمهورية بلقب صاحب فخامة! إن الفخامة وحدها من حق السلطان! وصدر في الحال أمر (الكتوبحي) أي الرقيب إلى جميع صحف بيروت بالتعليمات التالية:

أولاً: لا يعطى صاحب الفخامة أو صاحب الجلالة أو صاحب العظمة إلا للسلطان وحده دون سواه.

ثانياً: يلقب الملوك والإمبراطوريون والسلاطين في باقي أنحاء العالم بقلب (حشمتلو).

ومن أيام العثمانيين وحتى اليوم تغيرت أمور كثيرة وبقيت أشكال الرقابة من رقابة ذاتية ورقابة مجتمع ورقابة المقدسات وغيرها.

بعض الأمور لا تتغير حتى ولو تغيرت الدنيا!



albassamk@hotmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد