بات مشروع عبدالله القصيمي الفكري والتحولي من المشروعات المستهلكة وغير الصالحة للاستخدام العقلي الآدمي لعدة اعتبارات يأتي في طليعتها أنه مشروع صراخي مجاني لا يتعامل مع التراكم الثقافي تعاملا إنتاجيا سلباً أو إيجاباً ولم يبرز إلى السطح مؤخراً إلاّ على موجة الشك الجديد الذي لا يتبنى مدرسة فكرية جديدة أو خياراً إبداعياً إنما هو التقولب الجاهز من إلى. فالتحول من الإيماني إلى الإلحادي أو العكس هو من قبيل اختيار الجاهز والناجز والمتحصّل مجاناً وفي هذا السياق يبرز اسم عبدالله القصيمي ونتاجه وتحولاته واختياراته بل وانتقاله من العلمي المحض إلى الشعوري المحض والطفرة الناصعة فيما يتعلق بالأدوات التفكيرية واللغوية وقدرتها على إسعافه على الجهر بهكذا تحول فالقصيمي انتقل من كونه شارحاً لقناعاته إلى مبلغ عنها والشرح مرحلة لاحقة للتبليغ على مستوى اللغة ودرجة التوتر دون الفصل بينهما فبدرجة التوتر تكون اللغة وكلاهما متأثرا بمدى إنجاز مشروع الشك داخل منظومة الوعي والشعور وهذا الكسر على مستوى لغة التعبير لدى القصيمي يشي بجدية النقلة ما بين سابقة التوضيح إلى لاحقة البحث عن مادة للتوضيح فالقصيمي لم يكن يشرح في مرحلة الشك بقدر ما كان يبحث عن مادة ليوضحها أو لغز ليكشفه فالثورة لم تكن على صعيد القناعة السابقة فقط بل على أدوات التعبير عنهما فمارس القصيمي قمعاً وإقصاءً ضد هذه القناعة ولغتها دون أن يؤمّن بديلاً لغوياً تعبيرياً يتكيف مع مرحلة الشك إذ إن شكّه هبط دون مقدمات علمية واضحة تصاحبها مقدمات تعبيرية على نفس المستوى من الوضوح غير أن هذه البراءة من الماضي عقيدةً ولغةً ولّد قمعاً أسفرت عنه انفجارات وعشوائيات تعبيرية اتجهت إلى خانة الغريب بل والمثير للتندر ومن أكثر هذه التعبيرات الثورية (إنّ) التوكيدية الناصبة وازدهارها في كتاباته بعد مرحلة الإيمان وتصدرها معظم مقاطع الصراخ والاحتجاج التي لا يتعين وصفها إلاّ ب (مقاطع) وما يتلو هذه ال (إنّات) من صخب علامات الاستفهام والتنبيه والمترادفات وتوجيه الخطاب إلى المفرد دون الجمع والمؤنث. وعليه فالقصيمي متورط بمساحة ضيقة للتعبير اللغوي لا يتجاوزها إلاّ للعودة إلى المنهجية اللغوية السالفة أو السلفية التي تبرأ منها أو تبرأ من السعة اللغوية إلى ضيق لم يتحمل تبعته.
تنهض (إن) الناصبة التوكيدية كحجر زاوية ليس في كتابات القصيمي بل في مرحلته الفكرية الجديدة وتأتي لتؤسس لحوار بينه والآخر الذي لم يحدد القصيمي جهته أو قدرته على الفهم أو على القراءة أو الاستماع أي أن أي (آخر) هو مصاب بخلل في تقييم القصيمي فيكرر استفهام (كيف!) و(لماذا؟) وغيرها وكأنه يصرخ في أذن أصمّ أو يسنطق أبكم دون أن يميز بين أيٍ من متلقيه فالآخر غير مكتمل الحواس في حين أنه كان مكتملها فترة كتاباته السلفية فلا تجد أي لون من التكراريات أو التوكيدات الباذخة لتوضيح فكرةٍ اطمأن القصيمي أنها بلغت هدفها عبر حواس القراء السليمة فكل ما هو خارج القصيمي محتاج إلى (إن) مع كل مقطع وهذا تصنيف حادّ وليس ببدعٍ في حياته التأليفية فالقصيمي يتخذ من الإيديولوجيا موقفاً حزبياً ومجالاً خصباً لتمظهرات ال(أنا) كما هو معروف عنه فهو من استخدم (الوهابية) و(الوهابيون) في عنوانات كتبه لوصف السلفية مدافعاً عنها في حال استخدامها آخرون في سبيل الانتقاص والغض منها فالتماهي الحزبي مع السلفية الذي مثّل موقف وطموحات القصيمي هو الذي سبب ردة الفعل الحادّة التي أنتجت موقفاً لغوياً ومنهجياً متبرِِئا من السلفية بكل صيغها ومن بينها الوهابية وما تنطوي عليه من موقف ولغة محدّدة.
إن الحالة الإيمانية أسست نوعاً من الامتلاء العاطفي والفكري واللغوي والانسحاب المفاجئ أو الطرد الطوعي سبب نوعاً من الفقد والضمور بعد اليقين (الفكرة السمينة) وكان لا بد من تعويض الامتلاء بالانتفاخ حتى لا تفقد الإيديولوجيا صحتها أمام تحديات صاخبة وساخرة فكانت (إن) وذيلها الطويل من الكلمات اللاهبة خير تعويض وانتفاخ من الآخر المتفاجئ من هذا التحول. إن تكرار (إنّ) يشي بضرب من عشوائية المشروع وقلة حيله إزاء ترتيبه بل تطوره إلى مستطيلات شعورية أشبه بأبيات شعر تنتظمها حروف متكررة تضبط إيقاعها وعليه فالرؤية العلمية تفقد وقارها بتدخلات (إن) الطفولية وتحكمها بما بعدها من تراكيب وتنظير فلا نظرية تقودها (إنّ) لأن (إنّ) مكوّن عاطفي تحتاج العقل ولا يحتاجها العقل وهذا ما يضطرني إلى القول إن القصيمي حاول مدرسة الإلحاد فانتهى إلى الإلحاد المدرسي فكانت كتبه ما بعد الإيمان أشبه بالأناشيد وكيف لا وصخبه كلّه ترجمه لحقد نيتشه على الرب والإنسان إذ إن الأخير لا تخفى في كتبه روح (إن) الناصبة في كثير مما يكتب. ولجوؤه اللهِف إلى (إن) كوسيلة دفاع أخيرة يتجلى أكثر في كتابه (صحراء بلا أبعاد) ففي ص48 وغيرها تتصدر (إن) أكثر من عشرة مقاطع. وتكرار التراكيب يشغل أحياناً عدّة أسطر في الصفحة الواحدة.
إن تورط القصيمي بما سبق يجعلنا نطرح قضية تتلخص في أن اختيار أو التحول من مدرسة فكرية إلى أخرى لا يعطينا الحق بمنح هذا التحول لقب مفكر فضلاً عن فيلسوف إلا إذا أضاف جديداً والقصيمي ليس كذلك وازدهار (إنّ) الغبية تعكس غباء وعجزا عن فرض البديل على عدّة أصعدة والقصيمي ليس ممن ألحد فأبدع بل ألحد وترجم لمن أبدع وصعود مشروع القصيمي مؤخراً يُردّ إلى ظاهرة أنصار (إنّ) في الخطاب ما بعد الديني في الثقافة العربية الإسلامية وإلى من همسوا بما جهر به القصيمي.
hm32@hotmail.com