أحداث متعددة حصلت في سياق مطالب وأوضاع التغيير في العالم العربي في الآونة الأخيرة في ظل خروقات خطيرة ومتنامية، مما يحتم علينا أن نكون على درجة كافية من الوضوح والصراحة بشأن الطرائق المقبولة وغير المقبولة..
للتغيير وفق ثوابتنا الثقافية والسياسية، ولن أذكر هنا حادثة بعينها لئلا يشعر أحد بأنه مقصود بذاته، فالمقال يتعاطى مع المبادئ والأفكار؛ ولكن الطرح مع ذلك سيكون واضحاً على نحو يجعل الجميع يقيم طرائقه في التغيير، سواء كانوا أفراداً أو جماعات أو طوائف أو فئات.
من يحلل طرائق التغيير المعمول بها في عالمنا العربي سيجد أنّ المعنيين بشأن التغيير بمختلف ألقابهم وأوضاعهم ومستوياتهم قد انقسموا إلى ثلاث جبهات:
1- جبهة التغيير الخارجي:
تضم تلك الجبهة أخلاطاً من المثقفين والمعنيين بالتغيير، يختلفون في تاريخهم الأيديولوجي وخلفياتهم الفكرية والحزبية، غير أنهم يجتمعون حول مبادئ تؤول إلى نظرية (الاستقواء بالخارج)؛ وهم يستخدمون العديد من المسوغات التي يبررون بها اللجوء إلى الخارج، سواء كان ذلك عن طريق بعض الدول القريبة أو البعيدة أو المنظمات الدولية أو الجماعات المسلحة، بل وجدنا بعضهم يلوح أو يتعاون مع الخارج بشكل أو بآخر ليمكّن الخارج من التدخل السياسي أو الاستخباراتي أو حتى العسكري بصورة مباشرة، في لوحة يمزق فيها أولئك كل معاني الوحدة الوطنية، فضلاً عن الانتماء الوطني، وهنا لا نستكثر أن يُنظر، إلى أولئك المتورطين بهذا النوع من التغيير الخارجي على أنهم طابور خامس في بلدانهم؛ بل لا نستكثر أن يُصنف بعض ذلك على أنه تمرد وعصيان مدني يستلزم وقفة حازمة وفق الخيارات المشروعة للحفاظ على الكيان والوحدة؛ لاسيما أنّ هناك معطيات خطيرة تهدد السيادة الوطنية، الأمر الذي يؤذن بحدوث فوضى خلاّقة أو غير خلاّقة في محيطنا العربي... فهل يعقل أن نشهد هذا اليوم تنادياً لتدخل بعض القوى الأجنبية في هذا البلد العربي وغداً في بلد عربي آخر، لأنّ (فئة) رأت أن ذلك سائغ من أجل تحقيق مشاريع الإصلاح العربية (المعطلة)... طبعاً هذا لا ُيقبل بأي حال، ونحن هنا نبدي استغرابنا الشديد من أن بعض المثقفين لم يقوموا بدورهم كما يجب في إطار محيطهم الاجتماعي والثقافي ليعلنوا عن موقف صلب تجاه خروقات خطيرة حصلت أو تحصل من قِبل بعض المنتسبين إليهم!!
2- جبهة التغيير الداخلي:
لحسن الحظ أنّ النسبة الأكبر من المعنيين بشأن الإصلاح في العالم العربي يؤمنون بالتغيير الداخلي، وعلى الرغم من وجود اختلافات فيما بينهم إزاء بعض المسائل من حيث التشخيص والعلاج، إلاّ أنهم يؤمنون بأنّ الإصلاح العربي يجب أن يكون في مبتدئه وخبره شأن عربي خالص لا تكدره أي مكدرات أجنبية، فهم يعتقدون بأنه لا توجد أمة حية أو مجتمع ناهض اعتمد على غيره في تحقيق الإصلاح أو محاربة الفساد، وعلى هذا فهم يؤكدون بخطاباتهم ومشاريعهم الإصلاحية على أنّ ما يحدث داخل البلاد العربية هو شأن شعوبها فقط، من خلال الحراك السياسي والثقافي وبالطرق السلمية، مع تشديدهم على إعطاء هذا الحراك ما يحتاجه من الفضاءات والآليات التي تتيح له أن يطور وظائفه وأداءه في مجال محاربة الفساد بكافة أشكاله المالية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ وتحقيق أو توسيع المشاركة السياسية الشعبية الحقيقية وفق الخيار الديموقراطي الذي يرتضيه الشعب العربي، داخل إطاره الحضاري العربي الإسلامي.
3- جبهة التغيير (الداخجي):
تتضمن تلك الجبهة عدداً من المعنيين بالإصلاح، الذين لم يحسموا خيارهم بعد، فهم يرون بأم أعينهم تردي الأوضاع الديموقراطية وانتشار أشكال من الاستبداد والفساد (المقنن) في العالم العربي؛ دون أن يبصروا مؤشرات كافية على وجود إرادة حقيقية للإصلاح، مما يجعلهم (مترددين) بين القبول بهذا الوضع المأساوي والقبول بالتدخل الأجنبي السافر بما يحمله من المخاطر الكبيرة، لاسيما أنهم يؤمنون بأنّ الدول الكبرى لا تنفق شيئاً من أجل سواد عيوننا أو وفاءً لمقتضيات نشر الديموقراطية كما يزعمون. ويتسم خطاب هذه الجبهة بالتوتر الشديد والقلق المحبط عن العمل والبناء، إلا أن أولئك لا يعدمون القدرة على التأثير على شريحة لا يستهان بها من الرأي العام العربي، مما يعني وجود خطورة لطروحات أولئك (الداخجيين)، وأنا أحسب أن إشراك أولئك في العملية الإصلاحية بشكل مباشر سيجعلهم يقتنعون بخيارات التغيير الداخلي!!
وبعد هذا التحليل المقتضب، أشير إلى أننا في العالم العربي لم نتعاط كما ينبغي مع طروحات الجبهات الثلاث إزاء مثل تلك القضية الخطرة، مما جعل مثل تلك القضايا تبدو كما لو كانت قضية تتعلق بمسألة جزئية في مشروعنا الإصلاحي كترتيبات الانتخابات في دائرة معيّنة أو إجراءات عمل مؤسسات المجتمع المدني، مما يعكس حالة التيه التي تعاني منها الثقافة والسياسة العربية المعاصرة، وهذه حقيقة يجب أن تدفعنا إلى بلورة المقومات والمعالم والشرائط التي نصنع منها الخيارات الإصلاحية المقبولة ضمن ثوابتنا الثقافية والسياسية الواجبة ، ومن أهم تلك المسائل ما يعضد الأمن الوطني والقومي ويحول دون تمكين الغرباء أو الأعداء من دس أنوفهم القذرة في شئوننا الداخلية، والواقع حافل بمئات المواقف الدنيئة التي لم نستفد منها شيئاً يذكر، سواء في الخطاب الإصلاحي أو المنظومة التشريعية التي يتوجب تطويرها لتكون معينة على التعامل مع تلك القضايا بشكل يتناسب مع خطورتها وآثارها الواسعة.
اعتماداً على ما سبق، أذهب إلى مطالبة المثقفين باختلاف أطيافهم الفكرية والسياسية إلى بلورة ميثاق عربي يتمحور حول رفض التدخلات الخارجية في أقطارهم العربية بأي شكل كانت، فالتدخل الأجنبي - أياً كان مصدره - مرفوض وغير مبرّر مهما كانت الظروف والملابسات التي تعيشها تلك الأقطار العربية، كما أنّ (التسامح) من قِبل البعض في استخدام أوراق أو أدوات أو آليات (الضغوط الخارجية) لتحقيق بعض المكاسب الإصلاحية، يعني بالضرورة القضاء على (القدرات الذاتية) و(الميكانزمات الطبيعية) اللازمة ل (دمقرطة الدكتاتورية) و (تفكيك الفساد المقنن) بالطرق السلمية المشروعة، مستخدمين أدوات الهندسة الاجتماعية بما في ذلك التشخيص الثقافي الحضاري، تماماً كما تفعل المجتمعات الأكثر ذكاءً والتي استطاعت بعد جهود تراكمية (استنبات الديموقراطية) و (تدجين الاستبداد).
ومن هنا يتوجّب على الفئات المعنية بالإصلاح توعية الشعوب والفئات والطوائف بخطورة السير في المنحدر الخطر للتغيير الخارجي أو الداخجي، مع وجوب وقوفنا صفاً واحداً ضد أي تدخل أجنبي يهدد أمننا ووحدتنا الوطنية والقومية، ومن جهة أخرى يتوجّب على الأنظمة العربية أن تفيد جيداً من دروس تلك الأحداث، وأن تكون على مستوى المسئولية في المضي قدماً في طريق الإصلاح الحقيقي، بعيداً عن (الشعاراتية الفارغة) أو (التطبيل الأجوف)، فالشعوب العربية قد نضجت!
Beraidi2@yahoo.com