تحدثت في مقال سابق عن اغتيال الأشجار في وضح النهار، وأتابع الحديث اليوم عن الشجرة في الحواضر والمدن، فإذا كانت حياة المجتمعات الريفية مرتبطة بالنبات والشجر باعتبار أن حياة سكان الريف تعتمد على الزراعة وتربية الماشية.
وتربية الماشية مرتبطة بالنباتات والأشجار المختلفة، ولدى سكان الأرياف ذكريات مختلفة مع الأشجار فقد قضوا جزءاً كبيراً من حياتهم في زراعتها، وحصد ثمارها، والمحافظة عليها من الآفات المختلفة، وكم استظلوا بظلالها، واجتمعوا تحت أغصانها، وبعض الأشجار لها مسميات عندهم، فهذه أم العيال، لكبرها، وأن العائلة كلها يمكن أن تجتمع تحتها، وتلك (بركة) للبركة التي تحل في محصولها، وهذه شجرة الجماعة لوصول محصولها إلى الجماعة وتوزيعه عليهم في كل عام، أما إذا انتقلنا إلى مجتمعات المدن، فإننا نجد العلاقة بالشجرة ضعيفة إلى حد ما، فحياة المدينة تعتمد على التجارة، والوظيفة، والصناعة، والخدمات، وعلاقة تلك المهن بالنبات والأشجار علاقة هامشية في معظم الأحيان، والذين هاجروا إلى المدن من الأرياف ولهم علاقة وثيقة مع الاشجار والنبات قد لا تسمح لهم ظروف المدينة المناخية، ومحدودية المساحات السكنية من استعادة العلاقة مع الشجرة، إلا في ظروف ضيقة محدودة، ففي الرياض مثلاً يجد من جاء من مناطق يكثر فيها النخيل فرصة محدودة لزراعة هذه الشجرة العظيمة في أفنيتهم، وحول منازلهم، وبعضهم ينقل شتلات تلك الأشجار من مزرعة آبائه وأجداده، أما من جاء من مناطق تزرع الرمان واللوز والخوخ ونحوها فقد يتعذر عليهم مواصلة علاقتهم بتلك الاشجار لأن البيئة الجغرافية والمناخية لا تساعد على نموها. وإذا كان سكان الأرياف مرتبطين بالنبات والأشجار بحكم نشاطهم وطبيعة حياتهم، فيجب على سكان المدن أن يعنوا بهذه المخلوقات لما لها من فوائد جمة لمن يعيش في المدن، فالمدينة تكثر فيها ضغوط الحياة، وتكثر فيها العلل النفسية، ويكثر فيها التلوث، والشجرة من أفضل الوسائل لمعالجة تلك الآفات، فلا أجمل على النفس التي تعاني من الضيق والضغط من أن تنظر إلى الأشجار والنباتات المختلفة، بألوانها التي يغلب عليها اللون الأخضر الذي يبعث في النفس راحة وهدوءاً، وبعض الأشجار والنباتات تظهر لها أزهاراً مختلفة الألوان منها الأحمر والأصفر والبنفسجي وتتخذها مسكناً لها، وزقزقة العصافير مع منظر الشجرة الجميل، يزيد الجمال جمالاً، ويبعث على مزيد من البهجة والسرور، والأشجار تزود البيئة بالأكسجين، وتمتص ثاني أكسيد الكربون، والمدن مليئة بالسيارات والمصانع التي تلوث الهواء، ومقابل كل سيارة تسير في شوارع المدينة يجب أن يكون هناك سبع شجرات لتمتص ثاني أكسيد الكربون، ولو فرضنا أن في مدينة الرياض مليون سيارة فيجب أن يكون فيها على الأقل سبعة ملايين شجرة لتحدث التوازن المطلوب، والمدينة تكثر فيها الضوضاء والصخب، وتتشابك فيها الأصوات. والأشجار من أفضل الوسائل لامتصاص الأصوات وتقليل معدلات الضجيج، وحياة المدينة تكثر فيها المباني المسلحة المتشابهة، وتكثر فيها الشوارع المعبدة، ولابد من وجود صفوف من الأشجار، ومساحات خضراء لكسر هذه الرتابة المملة في حياة المدينة.
ومن العقبات التي تواجه زراعة الأشجار في المدن وخاصة في المناطق الحارة مثل مدينة الرياض قلة الأمطار، وشح المياه، وهذه مشكلة استطاعت وزارة البلديات والشؤون القروية الإسهام في التغلب عليها وذلك بإجراء دراسات لاختيار وتطوير أفضل أنواع الأشجار مقاومة للجفاف والحرارة، ونجحت في ذلك كثيرا، فوجد أن نباتات البرسوبس، والكرفس، ونحوها من أكثر الأشجار تحملاً للحرارة، وصبراً على العطش، ولكن ظهر لبعضها مثالب ومساوئ يمكن التغلب عليها عن طريق الهندسة الوراثية وعزل الجينات التي تسبب المشكلة، ومن تلك السلبيات كون شجر البرسوبس يسبب الحساسية، وأن ثمار بعض شجر الكرفس لها رائحة كريهة، وأرى أنه يجب الحرص قدر الإمكان في زراعة الاشجار داخل أفنية المنازل على أن تكون من الأشجار المثمرة، والمناسبة للبيئة المحلية، مثل النخيل، وبعض أنواع الحمضيات، ولقد تحدث ابن خلدون قبل ستة قرون عن أن من علامات الترف في حياة المجتمعات زراعة أشجار الزينة، وهنا أقدم تحية خاصة لأمانة مدينة الرياض على نشر أشجار النخيل في كثير من الشوارع، والعمل على العناية بها وتلقيحها والاستفادة من ثمارها؛ ففضلاً عن أنها زينة، وتؤدي وظائف بيئية كثيرة، فإن كل جزء من أشجار النخيل يمكن أن يستفاد منه، ثم إن أوراقها لا تهل ولا تتساقط، ومن ثم لا تشكل عبئاً في تنظيف الشوارع والأماكن التي توجد فيها، ولو كان لي من الأمر شيء لجعلت من شروط إدخال الكهرباء إلى المنازل الجديدة زراعة عدد من الأشجار حول سور المبنى تتناسب مع مساحته، كما يجب أن يكون لكل حي حديقة عامة بمساحة مناسبة، كما يجب الحذر من زراعة الأشجار التي تؤثر على أساسات المباني مثل أشجار الكينة المعروفة، وهي أشجار تعلو في السماء لمسافات طويلة فهي ناطحة سحاب وناطحة تراب في الوقت نفسه؛ حيث تذهب جذورها لمسافات بعيدة بحثاً عن الماء، وقد وجد بعضهم جذورها في دورة المياه بعد أن قطعت مسافة لتصل إلى هناك.
بقي أن يعلم القارئ الكريم أن أطول الأشجار توجد في ولاية كاليفورنيا في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث يبلغ طولها حوالي مائة وعشرة أمتار، أي أنها تعادل عمارة طولها حوالي أربعين طابقاً، ويمكن لجذورها أن تمتد إلى أعماق خمسة وأربعين متراً، وبعضها يبلغ من العمر حوالي خمسة آلاف سنة، ويبلغ قطر أكبر جذوعها حوالي خمسة أمتار، وقد تم شق طريق للسيارة من خلال جذع إحدى تلك الأشجار،
إن ثقافة العناية بالنباتات والأشجار يجب أن تشبع في مدننا، ولهذا فعلى مؤسسات التنشئة الاجتماعية المختلفة وفي مقدمتها الأسرة والمدرسة والإعلام والمسجد دور كبير في هذا الجانب وغيره من جوانب الحياة المختلفة، والله الموفق.
* أستاذ علم الاجتماع في جامعة الإمام، رئيس مجلس إدارة الجمعية السعودية لعلم الاجتماع والخدمة الاجتماعية.
zahrani111@yahoo.com