من المعلوم أنّ المدينة المنورة دخلت في الحكم السعودي الأول سنة 1220هـ، كما تؤكد المصادر التاريخية وعلى رأسها ابن بشر الذي أورد في أخبار تلك السنة ما نصه: (وفي أول هذه السنة - 1220هـ - قَبْل مبايعة غالب - شريف مكة - بايع أهل المدينة سعودا عَلىَ دين الله ورسوله والسمع والطاعة، وهُدِمَت جميع القِبَاب التي وُضِعَت فيها القبور والمشاهد، وذلك أن آل مضيّان رؤساء حرب وهُمَا بادي وبَدّاي ابني بدوي بن مضيان ومَن تبعهم من عربانهم من حرب ووَفَدَا على عبدالعزيز وبايعوه، وأرسل معهم عثمان بن عبدالمحسن أبا حسين يعلّمهم فرائض الدين ويقرّر لهم التوحيد، فأجمعوا على حرب المدينة ونَزَلوا عَوَاليها، ثم أمَرَ عبدالعزيز ببناء قصر فيها فبَنَوه وأحكموه واستوطنوه، وتبعهم أهل قبَاء ومَن حولهم وضَيّقوا على أهل المدينة وقَطَعوا عنهم السوابل، وأقاموا على ذلك سنين، وأرسل إليهم سعود وهم في موضعهم ذلك الشيخ العالِم قِرناس بن عبدالرحمن صاحب بلد الرس المعروف بالقصيم، فأقام عندهم قاضِياً معلّما كل سنة يأتي إليهم في موضعهم ذلك. فلما طال الحصار على أهل المدينة وقَعَت المكاتبات بينهم وبين سعود من حَسَن قَلْعِي وأحمد الطيّار والأعيان والقضاة وبايعوه في هذه السنة)(1).
ومما لا شك فيه أنّ مبايعة آل مضيان ووفادتهم على الدرعية كانت في حدود سنة 1214هـ أو قبلها بقليل، وذلك للاعتبارات التالية:
- إن إحدى الوثائق العثمانية المؤرخة في سنة 1215هـ قد أشارت إلى انضمام القبائل المجاورة للمدينة إلى عبدالعزيز بن سعود وأنه يحاصر المدينة (2).
- أن تقريراً مرفوعاً من شريف مكة غالب بن مساعد إلى السلطان مؤرخ في 16- 5-1216هـ، قد أشار إلى انضمام بادي ابن مضيان وأتباعه من حرب إلى الإمام في الدرعية وأنه أصبح من قواده، وأنه أدخل قبائل حرب المحيطين بالمدينة المنورة في تبعية السعوديين، وأنهم هاجموا المدينة المنورة في السنة السابقة(3).
- أن الإمام عبدالعزيز بن محمد توفي سنة 1218هـ رحمه الله، وأن مبايعتهم له كانت قبل وفاته.
وعند استعراض أسماء أمراء المدينة المنورة خلال الحكم السعودي (1220 - 1226هـ) في كتاب (أمراء المدينة المنورة (1-1417هـ) لمؤلفه: عارف عبدالغني، الصادر عام 1417هـ نجده يذكر من أمرائها:
- الأمير رقم (432): حسن القلعي (أمير القلعة: 1199 - 1226هـ).
- الأمير رقم (433): عبدالمعين بن مساعد (أمير مكة والحجاز: 1202هـ).
- الأمير رقم (434): غالب بن مساعد (أمير مكة والحجاز: 1202هـ).
- الأمير رقم (435): عثمان المضايفي (أمير الطائف والحجاز الفخري: 1217هـ).
- الأمير رقم (436): مبارك بن مضيان (أمير المدينة من قبل سعود بن عبدالعزيز: 1220 - 1227هـ).
- الأمير رقم (437): سعود بن عبدالعزيز (أمير مكة والمدينة: 1220 - 1226هـ).
- الأمير رقم (438): حمد بن سالم (وكالة عن الأمير سعود: 1221 - 1222هـ). وقد علق عليه المؤلف بقوله: (وأعتقد أن ذلك ليس صحيحاً، بل كان الوالي الحقيقي مبارك بن مضيان الظاهري، وقد يكون - أي حمد بن سالم - ولي الرابطة العسكرية ...إلخ).
- الأمير رقم (439): عبدالله بن مزروع (أمير الرابطة العسكرية في المدينة المنورة وكالة عن الإمام سعود: سنة 1222هـ).
ويعلق المؤلف بعد ذلك بقوله: (وهكذا نلاحظ منذ مبايعة أهل المدينة المنورة للأمير سعود بن عبدالعزيز آل سعود فوجد في المدينة ثلاث سلطات:
1- سلطة مبارك بن مضيان الظاهري أمير المدينة المعيّن من قبل سعود بن عبدالعزيز.
2- سلطة حسن قلعي الذي بايع سعود بن عبدالعزيز وثبته على المدينة.
3- سلطة سعود بن عبدالعزيز الأمير الحقيقي.
4- سلطة أمراء الرابطة للأمير سعود بن عبدالعزيز كحمد بن سالم وعبدالله بن مزروع.. ولا ندري كيف تداخلت هذه السلطات..) إلى قوله: (وقد أدرجنا أمراء الرابطة، وذلك لملاحظة الوضع الداخلي للمدينة وانعكاس مثل هذه السلطات على الأهالي)(4).
كما تشير مصادر تاريخية أخرى إلى دور ابن عفيصان مثل: الفرنسي مانجان الذي قال ما نصه: (ولما وصل - يعني طوسون باشا - أمام المدينة المنورة وجد أن فيها حامية للدفاع عنها بقيادة إبراهيم بن عفيصان، فحاصرها ...إلخ)(5).
وقال في موضع آخر عن تكليف الإمام سعود لقائده ابن عفيصان بالذهاب إلى المدينة المنورة: (... أرسل لإبراهيم بن عفيصان، حاكم الأحساء أن يذهب للإشراف على المدينة المنورة، وعين بدلاً منه فهداً أخاه، وفي الوقت نفسه اختار عبدالله بن مزروع ليشارك مطلق المطيري في إدارة إقليم عمان)(6). كما أشار طوسون باشا أيضاً في إحدى وثائقه إلى إبراهيم بن عفيصان ووصفه بأمير المدينة. ولا شك أن ابن عفيصان أحد الأمراء البارزين في عهد الدولة السعودية الأولى، أرسله الإمام سعود على رأس قوة من المرابطين إلى المدينة سنة 1226هـ، ثم ولي إمارة عنيزة بعد ذلك وتوفي فيها سنة 1229هـ(7). إلاّ أن أياً ممن كتبوا عن أمراء المدينة المنورة خلال الفترة من 1220 إلى 1226هـ وعلى رأسهم ابن بشر، ودحلان، والبرادعي، وعبدالباسط بدر، وعارف عبدالغني، لم يعدوه من أمرائها، وربما يعود ذلك لقصر الفترة التي مكثها ابن عفيصان. ومن الواضح أيضاً أن إمارته إنما كانت على قوة المرابطة السعودية المقيمة في القلعة.
وأشار ابن بشر إلى إمارة حسن قلعي على المدينة لكنه لم يشر إلى إمارة ابن مضيان، إلاّ أن المصادر الحجازية تشير إلى أن الإمام سعود عَيّن الشيخ بَدَّاي بن مضيان أميراً على المدينة وعلى قبائل حرب المحيطين بها، ثم توفي بداي وحل محله مسعود بن مضيان. فقد أشار إلى ذلك دحلان بعبارة صريحة فقال وهو يتكلم عن دخول قوات طوسون باشا المدينة: (.... وأخرجوا من كان فيها من الوهابية، وقبضوا على ابن مضيان الذي كان متأمِّراً في المدينة ....إلخ) (8). كما أشار إلى خبر إمارة ابن مضيان كل من بوركهارت والجبرتي وغيرهم بما يضيق المجال عن استعراضه(9). كما أشار إلى ذلك أيضاً أيوب صبري باشا إلاّ أنه سماه مبارك، فقال: (وبعد دخول السلفيين المدينة المنورة .... وَلّوا مبارك بن مضيان عليها، وعادوا إلى الدرعية)(10).
كما ذكر د. عبدالباسط بدر ما مفاده: أن الإمام سعود بن عبدالعزيز قد عيّن مبارك بن مضيان الظاهري الحربي أميراً على المدينة وقائداً للمرابطين، وكان مبارك قد أسهم في بناء القصر في العَوَالي وسُمِّي فيما بعد باسمه، واستمرت إمارته إلى نهاية الحكم السعودي أي سبع سنوات وبضعة أشهر ....إلخ(11).
أقول: والصحيح أن الشخص المقصود هو مسعود بن مضيان وليس مبارك. ولكن د. بدر ربما نقل عن الجبرتي الذي أخطأ في اسمه.
ويذكر البرادعي أن الأمير ابن مضيان قد سكن بالساحة، وعرف سكنه بسقيفة الأمير نسبة إليه، والدار هي وقف الحمصاني ومعمورة حتى اليوم ويسكنها الشيخ محمد مرسي الذي يعمل بالمسجد النبوي الشريف، كما أن من آثاره القلعة التي عرفت باسم قلعة ابن مضيان(12).
وهكذا يجد الباحث المنصف أن إمارة ابن مضيان على المدينة في العهد السعودي الأول قد أشار لها كثير من المؤرخين القدامى أمثال بوركهارت المعاصر لتلك الحوادث، فقد وصل إلى الحجاز عام 1228هـ وأقام فيها ما يقارب السنة قضاها بين مكة والمدينة، فكان أقرب لتلك الحوادث من ابن بشر، وقابل في الحجاز محمد علي باشا نفسه كما قابل كبار المسؤولين في المدينة، وهذا ما أعطى معلوماته الكثير من الأهمية لدى الباحثين في تاريخ المدينة المنورة. ومنهم أيضاً العلامة عبدالرحمن الجبرتي المعاصر للحدث وكان ذا صلة برجالات مصر في عهده. وكذلك السيد أحمد زيني دحلان (1231 - 1304هـ) وهو قريب من الحدث زماناً ومكاناً. ومنهم أيضاً المؤرخ التركي أيوب صبري (ت 1306هـ - 1890م) الذي عمل في الحجاز لسنوات، وكان قريباً أيضاً زمناً ومكاناً من تلك الحوادث وله صلة بالسلطة العثمانية. والمطلع على هذه المصادر يعرف أن أياً من بوركهارت أو السيد دحلان أو أيوب صبري لم ينقلوا عن الجبرتي، ولم ينقل بعضهم عن بعض.. ومن المعاصرين الأستاذ أحمد البرادعي الذي يظهر أنه لم يعتمد فيما كتبه بهذا الخصوص على الجبرتي ولا على بوركهارت ولا على الدحلان ولا على أيوب صبري، إذ لا نجد كتبهم ضمن مصادر كتابه، فضلاً عن أن ما ذكره لا يوجد لديهم، وإنما نقله عن الشيخ محمد مرسي وغيره من أهل المدينة. ولا يرى الباحثون في تاريخ المدينة المنورة تعارضاً بين الكتب التي وصفت حسن قلعي بأمير المدينة والتي وصفت ابن مضيان بأمير المدينة، بل جمعوا بينها بأن حسن قلعي كان قائد القلعة، والقلعة في قلب المدينة كانت مقر أتباع الدولة من الموظفين والمقاتلين وغيرهم من حاضرة أهل المدينة، أما سكان المدينة من العرب وأبناء القبائل البدوية في المدينة وفي ما يتبعها من القرى والأرياف والبوادي، فكانت إمارتها أعم وأشمل وهي التي ربطتها القيادة السعودية بابن مضيان لدوره الكبير في إخضاع المدينة المنورة، وإدخال قبائل المنطقة في التبعية السعودية، وقد تطرقت في بعض مؤلفاتي الخاصة بابن مضيان وقبيلته إلى دوره في تاريخ المدينة، ولم أتطرق إلى غيره ممن ليس له علاقة بموضوع الكتاب، ولحسن الحظ أن كل من ذكرت كتبوا ما كتبوا قبل أن أكتب ما كتبت عن إمارة ابن مضيان، ومع ذلك فقد ذهب البعض إلى اتهامي بتنصيب ابن مضيان أميراً على المدينة لمجرد كونه من شيوخ القبيلة، كما أن كل من طالع تاريخ ابن بشر وما ذكره عن دور ابن مضيان في دخول المدينة، ومن بنائه قصراً في عوالي المدينة وليس في دياره بالصفراء، ومن أسره، وترحيله، وشنقه في استامبول، يدرك الدور الحقيقي لهذا القائد السعودي الذي دفع حياته ومشيخته العريقة ثمناً لوطنيته!
والله تعالى أعلم وأحكم.
(1) عنوان المجد في تاريخ نجد، لابن بشر، مكتبة الملك عبدالعزيز العامة، الرياض، 1423هـ-2002م، ص184 .
(2) الأرشيف العثماني، خطي همايوني رقم 19693، من والي الشام إلى الصاري، وكذلك كتاب آخر من آدم أفندي إلى السلطان، تحت رقم 196930 .
(3) الأرشيف العثماني، وثيقة رقم 3838 H.H، تقرير مطول من شريف مكة إلى الباب العالي مؤرخ في 16-5- 1216هـ.
(4) أمراء المدينة المنورة 1- 1417هـ، تأليف: عارف أحمد عبدالغني، دار الكنان، دمشق، 1417هـ-1996م، ص396-403 .
(5) تاريخ الدولة السعودية الأولى وحملات محمد علي على الجزيرة العربية، تأليف: فيلكس مانجان، ترجمة: أ. د. محمد خير البقاعي، دارة الملك عبدالعزيز، 1424هـ، ص50 .
(6) المصدر السابق، ص324-425 .
(7) عنوان المجد، مرجع سابق، ص95، 140، 141، 143، 203، 225، 227 .
(8) خلاصة الكلام في بيان أمراء البلد الحرام، للسيد أحمد زيني دحلان، ص295 .
(9) مواد لتاريخ الوهابيين، الرحالة بوركهارت، تحقيق: د. عبدالله العثيمين، الطبعة الأولى سنة 1405هـ، ص123 .
(10) مرآة جزيرة العرب، لأيوب صبري باشا، ج1، ص144 .
(11) التاريخ الشامل للمدينة، تأليف: د. عبدالباسط بدر، ج2، ص432 .
(12) المدينة المنورة عبر التاريخ الإسلامي، تأليف: أحمد بن صالح البرادعي، 1391هـ-1972م، ص130 .
فائز بن موسى البدراني الحربي