الشيخ يوسف القرضاوي، وهو أحد كبار الفقهاء في العصر الحديث، قال رأيه في (الاختلاط)، وأتى في جريدة (المدينة) بتأصيل فقهي محكم ينقض على الأقل القول بأن الاختلاط بين الرجل والمرأة (مجمع) عليه بين فقهاء أهل السنة، كما كان يدعي البعض في الماضي.
وبالأمس نشرت جريدة (عكاظ) قولاً للشيخ الدكتور علي جمعة مفتي مصر جاء فيه بالنص: (لا يسع أحداً أن ينكر مشروعية الاختلاط لطلب العلم وهذا الواقع ثابت في السنة النبوية الشريفة والتاريخ الإسلامي، ولا يصح أن نجعل التقاليد والعادات الموروثة في زمان أو مكان معين حاكمة على الدين والشرع، بل إن الشرع يعلو ولا يعلى عليه، فلا يجوز لأي فرد أن يحمل الناس ويشدد عليهم فيما جعل الله تعالى فيه يسراً وسعة).
وهذا كل ما نطالب به ليس في هذه القضية على وجه التحديد، وإنما في كثير من القضايا التي تم تحريمها رضوخاً لعادات وتقاليد موروثة ما أنزل الله بها من سلطان، فحاول الفكر المحافظ أن يُسبغ على التمسك بهذه العادات الموروثة نوعاً من أنواع القدسية، فنسبها للإسلام، بينما هي تقليد موروث لا علاقة له بالإسلام قدر علاقته بالبيئة الجغرافية، وبالإنسان الذي يعيش في هذه البيئة.
النقطة الثانية التي يُثيرها الحديث عن موضوع الاختلاط أن التفسير المتشدد و(المنغلق) للدين إذا ما سيطر على البيئة الحياتية المعاصرة، وعلى ذهنية الإنسان فيها، لا بد وأن يُعيق كل مشاريع التحديث والتطوير، والشواهد لدينا أكثر مما تحصى. أريد من فقهائنا أن يقرؤوا الوضع الذي نعيش فيه قراءة موضوعية، ليتعاملوا مع المستجدات بأفق واسع، يرى الحقائق كما هي تماماً على الأرض، ويحاول أن يجعل مصلحة الوطن، وما تتطلبه هذه المصلحة نصب عينيه دائماً طالما أن تحقيق المصالح مقصد من مقاصد الشرع الحنيف قبل أن يكون مطلباً وطنياً ملحاً.
يقول العز بن عبد السلام: (إن تحصيل المصالح المحضة، ودرء المفاسد المحضة عن نفس الإنسان وعن غيره محمود حسن، وإن تقديم أرجح المصالح فأرجحها محمود حسن، وإن درء أفسد المفاسد فأفسدها محمود حسن، وإن تقديم المصالح الراجحة على المفاسد المرجوحة محمود حسن، وإن درء المفاسد الراجحة على المصالح المرجوحة محمود حسن، واتفق الحكماء على ذلك)، إلى أن قال: (وكذلك الأطباء يدفعون أعظم المرضين بالتزام بقاء أدناهما، ويجلبون أعلى ولا يبالون بفوات أدناهما،... فإن تعذر درء الجميع - المفاسد - أو جلب الجميع - المصالح - فإن تساوت الرتب تخير، وإن تفاوت استعمل الترجيح عند عرفانه، والتوقف عند الجهل به). وهذا - أيضاً ما يؤكده ابن تيمية - رحمه الله - حين يقول: (الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان، ومعرفة خير الخيرين وشر الشرين، حتى يقدَّم عند التزاحم خير الخيرين ويدفع شر الشرين).
كل ما نريده ونطالب به قبل التشبث بالعادات والتقاليد (الموروثة) والإصرار عليها، النظر إلى مصالح الوطن، وأهل الوطن، بعقل وروية، طالما أن المصلحة هي مقصد من مقاصد الشريعة.
إلى اللقاء