في توقيتين متزامنين تقريباً عقد في بيروت والرياض مؤتمران يعنيان بشؤون النشر والقراءة، الأول أقامته مؤسسة الفكر العربي، والثاني أقامه اتحاد الناشرين العرب، وكالعادة أشار الباحثون والمناقشون إلى تقزم الوضع القرائي بين العرب مقارنة بغيرهم من الأمم
وتحدثوا عن ضعف حركة النشر في الوطن العربي واستعرضوا الإحصائيات التي تجعل العرب في أدنى السلم قراءةً ونشراً.
ولقد أصبحت هذه النغمة التي تصف العرب بالتخلف في الإنتاج الفكري سواء في التأليف أو حقل الترجمة لازمة، تصفع وجوهنا كلما صدر تقرير للتنمية سواء أكانت تنمية إنسانية (كما في تقارير اليونسكو) أم تقارير تنموية ثقافية (كما في تقرير مؤسسة الفكر العربي الأول الذي صدر منذ عام).
إن من العجيب حقاً أن نناقش الأمور فيما بيننا استنادا إلى ما يجري خارج بيئاتنا الثقافية والاجتماعية. فالمقارنة بما يجري في البلاد الغربية والبلاد المتقدمة أو حتى بعض الدول الأقل تقدماً ليست عادلة. وهي مع الفارق كما يقال، فالوصول إلى مستوى مقارب لتلك البلدان ثقافيا يتطلب منا أن تكون في وضع مشابه لتلك الأوضاع من جميع النواحي ومما لا شك فيه أن الوضع الثقافي في البلاد العربية يمر بأزمة محققة، وهو جزء لا ينفصل عن الأزمة العامة على مختلف الصعد في هذه البلاد.
الأمة العربية تتجاذبها هذه الأيام تيارات عاتية تحاول اقتلاعها من هويتها، ومسخها مسخاً أبدياً. وأهم هذه التيارات يستهدف الثقافة، واللغة هي لسان الثقافة ومستودعها وركيزتها الأولى. وهي مهددة - في الوطن العربي - في وجودها بسبب طغيان الفكرة العاتية التي يروج لها في كل مكان والتي تنتشر بيننا انتشار الوباء في أمة عزلاء، ليس لديها من وسائل المناعة والتحصين العاملة ما يحفظ لها هويتها. تلك الفكرة المسيطرة هذه الأيام هي: أن اللغة الإنجليزية هي لغة العصر، ولابد لنا - كي نلحق بالعصر- أن نحول طاقاتنا الفكرية إلى هذه اللغة، وأن نجعلها اللغة الأولى في حياتنا، فهي لغة السوق، والمدرسة والجامعة والطب، والسياحة والترفيه، وكل ما يحيط بنا من شؤون. نفعل هذا بأنفسنا، وبقرارات حكومية أحياناً، من أجل تحويل الدراسة إلى اللغة الأجنبية، وجعل العربية لغة للدين ومواد اللغة العربية وحسب وهنا نتساءل: إذا كنا نعمل على تحويل أبنائنا إلى أجانب، يتراطنون فيما بينهم بالإنجليزية، ويديرون ظهورهم إلى لغتهم الأم، فما بالنا نتباكى على القراءة والنشر؟
إن العربية تختفي من حياة أبنائنا ومن تفكيرهم بشكل مخيف وهم ينظرون إليها- الآن- بازدراء فكيف نطالبهم بأن يكونوا قراء جيدين وكيف نتوقع لنا إسهاماً ثقافياً؟ بل كيف نتوقع لأبنائنا أن يكونوا مبدعين في أي علم أو فن؟ وكيف لنا أن نطمع بنهضة عربية حقيقية يتوطن فيها العلم، وتستنبت التقنية في أرض خصبة؟ دون أن يمتزج ذلك كله بفكر هؤلاء الأبناء ويجري في تراسل وتواصل مع طبائعهم العضوية والذهنية، وينبثق منهم شعاعاً ينتشر بسهولة ويسر بين أبناء جلدتهم؟.
قبل أن تحاسبوا العرب في تخلفهم في حقول القراءة والترجمة والنشر، وتعقدوا المقارنات الظالمة إحصائياً بينهم وبين الأمم المتقدمة، تعالوا ننظر ما لدى أولئك الآخرين الذين حققوا شأواً بعيداً في مضمار السباق العلمي والتقني والثقافي، والذين تزداد القراءة لديهم بمعدلات عالية، وتزدهر حركة النشر لديهم ازدهاراً عظيماً دعونا نقتبس منهم أدواتهم الفعالة في نشر الثقافة والتعويد على القراءة. ومن ثم نقارن أنفسنا بهم.
لابد لنا أن ننظر أولاً إلى الأرض الخصبة التي سواها أولئك لثقافتهم، وتلك هي اللغة التي اختاروها لهذه الثقافة، ولم تكن هذه اللغة إلا اللغة القومية لهذه الشعوب، فقد جعلوها رمزاً مبجلاً لا يمكن المساس به، أو التطاول عليه، أو التحول عنه، وأحاطوها بالقوانين والأنظمة التي تحفظ لها البقاء والازدهار، وأنشأوا لها المؤسسات الفاعلة التي تسهر على نشاطها، وتيسر طرق تعلمها وتعليمها وتحببها إلى النشء وبثوها شعاراً وطنياً في صدور أبنائهم، وجعلوها المسيطرة على إعلامهم، فدبلجوا لها الأفلام والمسلسلات الأجنبية، ولم يسمحوا لها أن تذاع بلغة غير لغتهم، وساندوها بكل الطرق الممكنة كي تكون حية متألقة، وجعلوها على كل لسان، ومنهم من صدرها مفتخراً إلى بلاد العالم الأخرى، ملتمساً أقل الوشائج لربط الآخرين بها، ومنهم من جعل لها مهرجاناً سنوياً يحتفل فيه باللغة الوطنية. بل إن اليونسكو جعلت يوماً معيناً في السنة للغة الوطنية، هو يوم اللغة العالمي من أجل افتخار الأمم بلغاتها، وجعلها موضع الاهتمام.
ثم دعونا نتساءل ما دمنا في صدد معرفة ما عند الآخرين:
هل نجد لدى هذه الدول تهويلاً وتضخيماً لأهمية اللغة الإنجليزية في الحياة؟ أم هم يتعاملون معها على أنها لغة مطلوبة في بعض حالات الاتصال مع الآخرين فلا يفرضونها على جميع المواطنين، ولا يعلقون لقمة عيش كل مواطن بها، فهي لا تشكل هاجساً ضخماً في حياتهم كما هي الحال عندنا؟
هل تحولت المدارس والجامعات في ألمانيا وفرنسا واليابان وكوريا والصين - وسم ما شئت من دول أخرى متقدمة - إلى اللغة الإنجليزية؟
هل اصطبغت أسواق هذه الأمم باللغة الإنجليزية؟ وهل صورت لهم هذه اللغة على أنها المنقذ الأول، وأن الحياة بدونها لا تستقيم؟
كلا لم يحدث ذلك ولا قريب منه فالناس هناك يعطون لكل شيء حجمه الحقيقي، فهم لا يشترطون الإنجليزية في وظائفهم لأن أسواقهم تدار بلغتهم الأم، بل إنني قرأت مرة أن شركة هولندية لم توظف عاملة لديها لأنها تتقن الإنجليزية فقط وليست متمكنة من اللغة الأم، إنهم يأخذون الإنجليزية على أنها ثقافة عامة لمن أراد ذلك، وضرورية لمن يتواصل مع الأجانب فقط، لكنها ليست مسألة حياة أو موت، كما تبدو لدينا، وليست دليلاً على التميز أو التفوق، وإلى جانب هذه اللغة يدرسون لغات أخرى متعددة، لإشباع هواياتهم، أو توسيع مداركهم، لكن الاهتمام الأكبر الذي يحاسبون على التقصير فيه يوجه إلى اللغة الوطنية.
والسؤال لماذا يفعلون ذلك؟ أهم يكرهون الخير لأنفسهم؟ والجواب بسيط: إنها أمم واثقة من ثقافاتها، وقدراتها الذاتية على المواجهة واقتناص ما تراه من خبرات من بقاع العالم المختلفة، وتحويله إلى ثقافتها، دون التنازل عن كرامتها والذوبان في خضم الأمم الأخرى.
ونتساءل أخيراً ألا يسعنا ما يسع هذه الأمم العظيمة التي تعد في مقدمة الأمم في هذا العصر، أم أننا سنأتي بما لم يأتِ به الأوائل والأواخر؟!.
إن تغلب الأمم عسكرياً وسياسياً واقتصادياً فذلك أمر مشاهد ومعروف، لكن أن تغلب ثقافياً فذلك أخطر أنواع الهزيمة، لأن الثقافة هي وعاء الهوية الذي يحفظها من الزوال والمسخ، لقد غلبت اليابان وغلبت ألمانيا سياسياً وعسكرياً ولكنهما لم تغلبا ثقافيا وفكريا، فظلت هذه الجذوة من الثقافتين مشتعلة حتى استرد البلدان عافيتهما السياسية والعسكرية، بل تفوقا اقتصادياً، ذلك أنهما لم ينهزما ثقافياً، وكان هذا سر الانتصار.
فإذا تساءلتم عن أسباب الانحدار في معدلات القراءة وما يمكن أن تؤول إليه حركة النشر العربي من كساد فأجدر بكم أن تتقصوا أسباب التخريب الثقافي، الذي يعصف بالأمة، ومن أهم وجوهه التخريب اللغوي الذي يفصل الأمة عن لغتها وثقافتها.
لكن الأمل ما زال معقوداً على القيادات السديدة في البلاد العربية وفي مقدمتها قيادتنا الرشيدة التي كانت دائماً سباقة لتلمس أسباب النهضة والتقدم، تلك القيادة العربية الأصيلة التي طالما أكدت اهتمامها بالعلم والثقافة، وبالهوية واللغة، في مواقف كثيرة، ولعل أقربها تلك الكلمات الرائعة القارئة للمستقبل بعين الوعي بالمسؤولية تجاه الوطن والأمة، التي وجهها خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز في افتتاح الندوة الدولية الثانية عن الحاسب واللغة العربية فقد قال حفظه الله:( إننا ندرك أن اللغة ليست مجرد حاضنة ثقافية لذاكرة الأمم فقط ولكنها يجب أن تطول العلم الحديث مصطلحاً وتداولاً وقراءةً وتفكيراً وشيوعاً وانتشاراً وليس أكثر أهمية اليوم من الاستفادة من التقنيات الحاسوبية لخدمة هذا المشروع).
هذه الكلمات النهضوية الصادقة تؤكد أهمية تفعيل اللغة العربية من أجل مستقبل أفضل، وهي دستور يجب أن يوضع موضع التنفيذ على جميع الصعد، وعندئذ لن يشتكي العرب من العزلة الثقافية، والأمية القرائية.
لقد اعتاد المؤرخون على تقسيم العرب إلى ثلاث فئات هي: العرب البائدة، والعرب العاربة، والعرب المستعربة، ولست أشك في أننا إذا لم نتدارك الأمر- نوشك أن نكمل حقبة جديدة تسمى حقبة العرب (المستغربة)، التي سوف تسلمنا - إن تمادت في تأثيرها لا سمح الله - إلى حقبة أخطر تنمحي فيها الثقافة، وتنمسخ الهوية، ويمكن أن يطلق عليها حينئذ اسم: حقبة العرب (الغاربة). ولله في خلقه شؤون.
Abuamr116@hotmail.com