لم يكن موقف شيخ الأزهر اتجاه الطالبة المتنقبة موقفاً منقطعاً عن عدد من السياقات التاريخية والفكرية المتعلقة بالمركزية الفكرية والثقافية لمصر والمرجعية الدينية التي يحرص عليها الأزهر في وجدان العالم الإسلامي.
لكن هنا الموقف القاسي المتعجرف ضد خيار فتاة اختارت أن تغطي وجهها ميلاً لمذهب معين, بينما اختار هو أن يرفع ويشهر حرابه ضد هذا المذهب فوق وجه هذه الفتاة (العطل من كل سلاح تقاوم به هيبة وسطوة شيخ الأزهر)، يجاور ويوازي موقفاً مشابهاً لأحد المحتسبين من رجال الدين عندما وبخ فتاة بنفس الصيغة المتعجرفة مع إضافة بعض لمسات من الغلظة الصحراوية؛ لأن فتحة نقابها واسعة، وفي النهاية فإن المشهدين حدثا تحت مظلة إسلامية ومنطلقات إسلامية واحتساباً لوجه الله تعالى.
ولكن - كما أسلفت - لا نستطيع أن نقصي الظرف التاريخي والسياسي والتوجهات الساعية إلى الانفراد بالمرجعية الدينية لعموم العالم الإسلامي عند المقارنة بين الموقفين.
والمتابع للصحافة المصرية في السنوات الأخيرة ومقالات كبار الكتاب المصريين سيمر به الكثير من القلق المتذمر للانتكاسات الفكرية التي تمر بها مصر نتيجة مأزق غياب أو تغييب مشروع النهضة المصري الذي كان يعتبر بذاراً لمشروع تنويري يشمل المنطقة؛ فبعض الأصوات في مصر ترجع جزءاً من هذا المأزق إلى ما يسمونه (البترو دولار) وتجلياته خلال عدد من مظاهر الحياة في مصر، وطغيان ما يسمونه (الفقه الصحراوي) على الشعائر والعبادات هناك، وهذا ما تلمح وتعرض به الصحف الرسمية بشكل موارب بينما صحف المعارضة تشير إليه بصورة مباشرة، وأحياناً محملة بنفس اتهامي.
الرداء والملابس هي أبرز رموز الهوية الثقافية، وعندما تشعر الهوية بأنها هددت فإنها تستجير وتقاوم من خلال جميع السبل التي تحميها من الذوبان والتلاشي؛ فبعد غياب (يشمك الهوانم) التركي مع مغادرة باخرة حفيد (محمد علي) للشواطئ المصرية، عادت حشمة المرأة المصرية محلية عبر تطوير طرحة بنت البلد أو زي الفلاحة أو العاملة؛ لتقوم بمهام الحجاب، ومع شهقة المد الصحوي في الثمانينيات والتسعينيات ظهر النقاب في الشارع المصري بكثافة؛ ليمثل تقاطعاً مع المألوف أو السائد هناك؛ مما جعل المرجعيات الدينية هناك تتصدى لهذه الظاهرة على أكثر من صعيد، كان آخرها موقف شيخ الأزهر ضد الفتاة المنتقبة، ولا سيما أن الموقف ضد النقاب اتخذ طابعاً عالمياً في أكثر من بلد من بلدان العالم.
الموجع في الأمر كله أن هذه الصولات والجولات, تقوم فوق وجوه النساء مع تغييب شامل لوعيهن وإرادتهن الخاصة باختيار الشكل الخاص الذي يستطعن من خلاله تلبية مقاصد ومتطلبات الشريعة من ناحية وشروط الفضيلة النابعة من إرادة خاصة من ناحية أخرى.
إنها حرب فوق وجوه النساء لتحديد عدد أمتار القماش التي يجب أن تغطي أعضاءهن؟ وكانت هي خلال الموقفين في مواقعها التاريخية المعهودة مستلبة الإرادة محاصرة بتهمة قصور الوعي، بينما الحراب والسنان والنقع تحتدم فوق ساحة الوغى.... أو وجوه النساء.