Al Jazirah NewsPaper Sunday  11/10/2009 G Issue 13527
الأحد 22 شوال 1430   العدد  13527
سلطان نجد وملحقاتها في مواجهة وباء الإنفلونزا 1918م

 

يظل الحديث عن الاهتمام المميز لولاة الأمر بأفراد الشعب أمراً من السهل تناوله، ولا تضني الكتابة فيه، بل نخوضه وبثقة، وذلك لأن الله حبا هذه البقعة الطاهرة من الأرض جمعاً من المقومات يبرز منها هذه الأسرة - أسرة آل سعود - التي تعاقبت على زمام أمر هذه البلاد قرون عدة، كانت - وما زالت - تعدل بين الرعية وتقيم حدود الله، وتأمر بين الناس بالمعروف وتنهي عن المنكر وتسعى بكل قوة لنشر الفضيلة ومحاربة كل أمر سوء يضر بالبلاد والعباد، في دينهم وبنيتهم الاجتماعية والترابط النسيجي بينهم، وفي الحالة الصحية لهم، ويسعى كل من ولي الأمر من هذه الأسرة الكريمة جاهداً إلى نشر العلم والثقافة مع الترحيب بالتطور والمدنية المنضبطة.

ومن وثق التاريخ ودون معاداته تجده ضالاً مضلاً يسعى لخراب الديار ونهب المسافر والحاج، ويمنع مساجد الله أن تُقام الصلاة فيها وأن يسمع من يذكر الله بين جنباتها، بل هو عدو لكل ما يجعل هذا الوطن عالياً مرتفعاً.

ومن مجالات الاهتمام التي أعني اهتمام صاحب الجلالة الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه - وهو أحد رجال أسرة آل سعود الكرام بالجانب الطبي وصحة المواطن فهو عندما سيطر على نجد والأحساء والقطيف والجبيل وتوابعها، شرع قبل أن يفتح بقية المناطق في خدمة شعبه وتأسيس بنية تحتية للخدمات ومنها الخدمات الصحية.

كان هناك مستشفى للإرسالية الأمريكية في البحرين ويمارس دوره الطبي في البحرين ويضم أطباء وجراحين وجهازاً طبياً متكاملاً مع تجهيزاته ومعداته الطبية. وفي الوقت الذي كان الملك عبدالعزيز يسمع عن هذا المستشفى وإمكاناته الطبية كان رحمه الله يرى حاجة شعبه إلى العناية الطبية والرعاية الصحية - وهذه من الصفات العظيمة التي كان يتصف بها هذا القائد والسياسي المحنك صاحب النظرة الثاقبة-، يقول بول أميردينغ وهو الرئيس التنفيذي لمستشفى الإرسالية الأمريكية في البحرين والطبيب الجراح في كتابه (أطباء من أجل المملكة) (أطباء من أجل المملكة: عمل مستشفيات الإرسالية الأمريكية في المملكة العربية السعودية 1913 - 1955م / تأليف بول ارميردينغ؛ ترجمة عبدالله بن ناصر السبيعي) والذي وثق فيه الرحلات الطبية لأطباء وجراحين في المستشفى للمملكة العربية السعودية: (أرسل الشيخ مبارك الصباح أمير الكويت رسالة إلى منزل الدكتور ميلريا، وكانت سيارة الشيخ متعطلة، ولذلك ستصل عربة خيل حلاً لتأخذ الدكتور إلى مخيم شيخ نجد عبدالعزيز آل سعود(يقول الدكتور عبدالله بن ناصر السبيعي (المترجم): (ربما جاء إطلاق لقب الشيخ على الملك عبدالعزيز بسبب تأثر رجال الإرسالية باللقب الشائع في امارات الخليج التي عملوا بها وإلا فالملك عبدالعزيز لم يتلقب به رسمياً) ا. ه (الموجود على بعد ثلاثة وثلاثين كيلومتراً خارج مدينة الكويت) (مايو 1914م)، ويروي اميردنغ عن الطبيب ميلريا الذي ذهب لمقابلة الملك عبدالعزيز رحمه الله قوله (وقف ابن سعود ينتظر للترحيب بي، ترجلت من العربة ودخلنا معا خيمته)، وفي تعليق للدكتور السبيعي ذكر أن الدكتور ستانلي ميلريا قد كتب مقالة نشرت في مجلة الشرق الأدنى ذكر فيها ما دار بينه وبين الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه - في ذلك اللقاء والجلستين التي تبعتها وكان مما ذكره (تطرق حديثنا إلى عدة مواضيع جدية لعل من أهمها الحديث عن فتح أبواب وسط الجزيرة العربية (للرجال البيض) يقصد الغربيين، عندما قال الملك: سنرحب بهم لكن بشرط واحد فقط ألا يتدخلوا في أمور ديننا، وهذا يعني معرفة الملك قصد من يتحدث معه ورغبته في إيضاح موقفه له من البداية) ا. ه.

ويستمر الاهتمام بالحالة الصحية للشعب والسهر على ذلك مع الحالة السياسية المتقلبة والحروب المتصلة مع أعداء السلام والأمن أعداء الدولة السعودية، ومحاولات الملك ضم بقية المناطق من الجزيرة العربية إلى ملكه لينعم أهلها برخاء العيش ورغد الحياة في ظل العدل المستمد من الوحيين، يقول اميردينغ في (أطباء من أجل المملكة): (وفي يوليو من عام 1917م جاءت دعوة رسمية لزيارة الدكتور بول هاريسون عاصمة نجد الرياض، فاستأذن هاريسون القنصل البريطاني فأذن له) حتى قال (وبعد رحلة إلى الهفوف، قضوا أياماً عدة أخرى براً في طريقهم إلى الرياض) ا. هـ، وقد سجلت زوجة هاريسون لاحقاً ذكريات بول حول اجتماعه الأول مع الشيخ عبدالعزيز آل سعود، تقول (كان ابن سعود واقفاً في غرفة صغيرة متواضعة، قابل بول بترحيب وقال له: بينما أنت هنا في بيتي فهو بيتك، أحضر خادم القهوة وخلال رشف ابن سعود فنجانه شرح أنه قد خصص منزلاً قريباً ليكون مستشفى) ا. هـ، وهذا برهان على علو كعبه في الاهتمام بأفراد شعبه بتحويل أحد المنازل ليكون مقراً لمستشفى يخدمهم ويعالجون مرضاهم فيه، ولكن العجب حين تعلم عزيزي القارئ أنه في ظل التكاليف المالية الباهظة التي تنفق على الفتوحات ومقارعة الأعداء وتحصين الثغور وحماية الحدود والإنفاق على مجالات أخرى إلا أنه كما قالت زوجة بول هاريسون (وكان يريد أن تتم معالجة شعبه دون كلفة مالية عليهم) ا.هـ.

وفي عامي 1918م و1919م انتشر وباء الإنفلونزا في دول العالم وأصبح ينتشر انتشار النار في الهشيم، فأخذ يحصد الأرواح ويتساقط الناس بسببه زرافات ووحدانا، حتى وصل مرض الإنفلونزا إلى الرياض ولم يكن امتداد الصحراء وضعف الاتصال عائقاً دون وصوله وانتشاره في جنبات عاصمة ابن سعود، فاستدعى الملك الراحل الفرق الطبية لمواجهة المرض واستنجد بالدكتور بول هاريسون مرة أخرى، يقول بول اميردينغ (فعندما وصل بول هاريسون إلى العاصمة كان السلطان حينها قد فقد ابنه البكر تركي وزوجته الجوهرة بنت مساعد بسبب الإنفلونزا) ا. هـ فأخذ الفريق الطبي الذي استدعاه جلالة الملك عبدالعزيز رحمه الله يكافح المرض ويعالج من أصيب به حتى شفي معظمهم وتلاشى المرض واضمحل، يقول الدكتور عبدالله السبيعي مترجم كتاب (أطباء من أجل المملكة) معلقاً (كانت وفاة الأمير تركي رحمه الله في الأسبوع الثالث من شهر ديسمبر 1918م وكان من ضمن من قضى عليه وباء الإنفلونزا أمير القطيف عبدالله بن عبدالرحمن السويلم)ا. هـ.

ومن الغريب الذي يروى عن الدكتور بول هاريسون أنه كان جراحاً ماهراً وكان من أوائل من استخدم مصران الغنم والمواشي في علاج عمليات الفتق المنتشرة في المنطقة بكثرة، والدكتور هاريسون له كتاب اسمه: (طبيب في العالم العربي) أورد فيه كثيراً من خبراته في المنطقة.

وزاد اهتمام جلالة المؤسس بصحة شعبه وأصبح المواطن يلمس ذلك الاهتمام، فلم يقتصر استدعاء الأطباء على الأحساء والرياض بل تعددت الفرق الطبية وزادت مساحة تغطيتها، ففي عام 1929م زار الدكتور لويس ديم مناطق أخرى غير الرياض التي قدم إليها بناء على استدعاء من الملك لألم ألمّ به في وجهه فعالجه وكتب الله له الشفاء، يقول اميردينغ (زار ديم مناطق أعمق في الداخل فمن الرياض سار إلى شقراء وعنيزة وبريدة وخلال أربعة أشهر وسبعة أيام قضاها في سلطنة نجد وملحقاتها تم فيها علاج 6552 مواطناً، إجراء 128 عملية جراحية كبرى، 214 عملية جراحية صغرى، وإعطاء 81 حقنة، وقد أمضى واحداً وأربعين يوماً على ظهور الإبل والحمير) ا. هـ.

وحين توحدت البلاد وساد العدل بين الرعية وانطلق الرجل لا يخاف إلا الله يجوب أرض الجزيرة غرباً وشرقاً وشمالاً وجنوباً، زاد الهاجس الصحي للمؤسس واستعان مع الدكتور لويس ديم في الرياض بالدكتور هارولد ستورم، يقول بول اميردينغ) وأمضى ستورم ثمانية أشهر متجولاً في شبه الجزيرة العربية، أقام ستة أسابيع منها في الطائف حيث تمت معالجة 4475 مريضاً، 1841 حقنة، 87 عملية جراحية.

هذا جزء ضئيل استعرضناه من حياة هذا الإمام الذي تناقلت الركبان سجاياه وصفاته الحميدة، وأصبح أهل كل قطر من أقطار الأرض يتمنى في قطره، عدله بين رعيته والوفاء منه لشعبه ليتشربوا حبه كما أحبه كل صغير وكبير من أفراد شعبه.

وحين أسست هذه البلاد على أسس متينة ومبادئ سامية استمدت من دين عظيم باقٍ إلى يوم يبعثون، جاء البنيان فوق هذه الأسس متيناً قوياً، وتقدمت البلاد وازدهرت، حتى انقلب الأمر، وتقلبت الأحوال، وتغيرت خرائط النبوغ والتفوق، وأصبح مؤشر البوصلة يشير إلى هذه البلاد حين توضع بحثاً عن قبلة تقصد للعلاج والشفاء، فالناس في مختلف دول العالم تواقون للقدوم للمملكة العربية السعودية لتطأ أقدامهم أرضها الطاهرة ويشربون من مائها الزلال ويستفيدون من إمكاناتها الطبية العالمية والخدمات الصحية الدولية، حتى غدت مثلاً يُحتذى وتجارب تُطبق وتُحتذى، وصولاً لعهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز أدام الله عزه وأظله الله بظلال التقوى وألبسه لباس الصحة والعافية وأبقاه لشعب يحبه ويدعو له صباح مساء.

سعد بن دخيل
ابن سعد الدخيل - ثرمداء
SDOKHAIL@GMAIL.COM



 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد