إذا ترحلْتَ عن قومٍ وقد قدروا |
ألا تفارقَهم، فالراحلون هُمُ!! |
حين قال الشاعر أبو الطيب المتنبي هذا البيت ضمن جملة أبيات مؤلمة يودع فيها سيف الدولة؛ كان عتبه سياسيا في الدرجة الأولى، حيث توجه بعدها تلقاء مصر نحو كافور الإخشيدي يطلب منه ما لم يتمكن من الحصول عليه في حلب قرب سيف الدولة الحمداني الذي كان يأمل منه المتنبي منصباً إدارياً، وكسباً مادياً وسياسياً يباهي به الشعراء!
|
فكيف بالعتب المشوب بالوداع العاطفي الذي لا يرجو منه المرء إلا لمسة حانية من يد حنون أو كلمة عذبة من لسان صادق؟!
|
وإن كانت نهايات العلاقات والصداقات مؤلمة؛ فإن أسوأها التي تبدأ بالانبهار والإعجاب، وتنقضي بأفول السطوع، وغروب الوهج، وانهيار الصرح حاملاً معه خيبة الأمل وسوء الخاتمة ونكران الجميل.
|
ولئن كان وداع من نحب يلجم اللسان، ويخنق العبرات، ويكسر القلوب؛ فإن إجبار نفسك وقسرها على نسيان حرقة خطئه، وإكراهها على تجاوز جمرة زلته هو الجحيم!
|
ولئن بقي ممن نحب عذب ذكرياته وسحر حديثه بعد الرحيل فهو كرم منه. أما أن يدعنا نسترجع مهاراته في تمرير عواطفه المتبدلة، ونستحضر أساليبه في استهلاك مشاعرنا الدافئة، وتخدير أحاسيسنا الرقيقة، فهذا لؤم منه!!
|
فأي قسوة يمارسها من أحببته أشد من ألا يدع لك فرصة البكاء عليه؟! ومكابدة الاشتياق إليه! والحنق منه، ومقاساة الوله والحنين إليه، أو... حتى العتب عليه!
|
وقد تسخط لتهميشك، وتفزع لصون كرامتك والحفاظ على مقامك، وتغضب للمساس بشموخك؛ فيبدو قرار مغادرتك قلب من تحب، وانسلالك من فؤاده قسوةً وظلماً منك! أما أن يدعك تذهب بسلام دون أن يَبكيكَ وينتحب ويتوجع لفراقك، ويثنيك عن قرارك ويُمسك بتلابيبك ويمزّق ياقتك فيقطّع أزارير قميصك ويوسعك صفعاً وركلاً؛ رفضاً لرحيلك؛ واحتجاجاً على غيابك فذلك الجحود! حتى ليخيل إليك أو ربما تحسبها في نفسك أو تتأكد من أنها لا تعدو أن تكون فرصة سنحتْ له فتحينها!عندئذ يُسقط في يدك وقد تندم على نشوء علاقة سامية كنت تتوقع أن الصدق بروازها والحب جوهرها والقلب مكانها! فلا تملك إلا أن تنظم أبيات الخذلان وتُنشد موال خيبة الأمل!
|
فماذا عساك أن تفعل وقد كنت تظن أن لك قارات ومحيطات من الحب بكل بقعة في خريطة حياته؟! ولك مأوى ومرفأ في حنايا ضلوعه، وتحسب أنك متربع في قلبه، بل متمدد باسترخاء ودعة!
|
وماذا تراه فاعلاً بعد أن غادرته وهو يدرك أن في كل قرار اتخذه بصمة من رأيك، وحكمة من تجاربك؟!
|
وما هو فاعل بعدك حين يجرحه أحد فتضجُ جراحه بالألم، فيبحث عنك لتلملمها، تضمدها، فلا يجدك! وقد كان يستطيع أن تبقى جواره، قريباً كخياله؟!
|
وغداً سيهدأ الشجن، وينضب الشوق، ويسكن الحنين، وتطيب الجراح، ويجف الغصن الذي كان يحمل أوراق الغلا، وزهور المشاعر، وثمار الحب؛ فلا تأتي بعدها لتسقي الشجرة ليورق الغصن، فالأغصان الجافة حين تفقد الحياة لا تورق بعد النسيان! فكيف حين يرافقه الجحود وقِلَّة الخاتمة والنكران؟!
|
rogaia143@hotmail.Com |
www.rogaia.net |
|
|