Al Jazirah NewsPaper Sunday  11/10/2009 G Issue 13527
الأحد 22 شوال 1430   العدد  13527
من دوافع التغيير
عبد الله بن محمد السعوي

 

التغيير منه ما هو سلبي ومنه ما هو إيجابي، والحديث هنا عن النوع الثاني، وغني عن القول أنّ منظومة الثوابت لا يطالها هذا التغيير فهي قضايا يفترض تجذرها وهيمنتها على مفاصل الوعي العام. التغيُّر من حال مرجوحة إلى حال راجحة ومن حال مفضولة إلى حال فاضلة، وإحراز التقدم في سلّم الارتقاء..

...شأن في غاية الأهمية، وكلما تعمّقت الخارطة المفاهمية للفرد، بالتالي تطوّرت نشاطاته العقلية وألفى ذاته أمام رقم كمّي من الخيارات التي يورثها اتساع حقول الرؤية وتَبَاعد مداها على نحو يدفعه للتغيير. ويمكن تسليط الضوء هنا على بعض الدوافع للتغيير:

أولاً : إنّ قاعدة الفهم لدى الفرد لا تتشكّل رحابتها إلاّ على نحو تراكمي ولا تتم صياغة هيكلتها إلاّ في إطار المعارف والتجارب المتعاقبة، ومن خلال مواجهة أسئلة الواقع التي يضخّها باستمرار. إنّ مكابدة التجارب ومعايشة شؤون المعرفة وتزايد النهم القرائي، من شأنه أن يُجري تحويراً في طبيعة الرؤية ويغيّر في ملامح المعاينة ويحسن من مستوى التقارير العقلية، وبالتالي يؤهل لإدراكٍ أعمق للقالب النهائي للحقيقة التي يتعذّر الوقوف على كافة معالمها إلاّ على النحو المتدرج. إنّ الإنسان عندما تتراكم معارفه وتتعمّق تجاربه ويتقدم به الزمن، فإنّ مستوى الرؤية الذي يحكمه يكون أكثر مرونة وتكون بنيته الثقافية مرشّحة أكثر لتقبل الجديد الإضافي الناجم عن الحراك الذهني الذي لا يكف عن التوقف. إنّ الإنسان يُمنى بالخسارة عندما يكون يومه مثل أمسه ولاحقه مثل ماضيه المنصرم، فهو يراوح مكانه غير قادر على مبارحته.

ثانياً : الإنسان بطبيعته محدود القدرات واهن الإمكانات، وبالتالي فهو لا يعاين الأشياء الاّ من منظور شديد القصور، إذ إنه مشروط بمحددات زمكانية ومعرفية حادة المحدودية، وعقله غير قادر على التحليق بعيداً عن فضاءاتها، ومن هنا فمن الطبيعي جداً أن تكون أحكامه مظنة النقص والضآلة، ولذا فعندما تتغيّر ملامح المعطيات المحيطة به قد تفتح له أبواباً أخرى فينظر من زوايا لم تكن قبلاً في حوزته، ومن ثم قد يهتدي نحو التّماس مع ما لم يكن ضمن مؤلّفاته, أو الانعتاق مما كان - آنفاً - يتوهّم محوريته، أو على الأقل تتدنى لديه درجة التصلُّب الأعمى لفكرة مّا، وفي المقابل يتضاءل مستوى نفوره الحاد من الأفكار المغايرة، وبالتالي يتخفف ذهنياً من متتاليات التأبي الدوغمائي والرؤية الأحادية التي لا تليق بذوي الكياسة, ومن المعروف أنّ ذا اللب الناضج لا يأخذه الحماس الحاد لأفكاره ولا يمنحها قداسة لا تسوغ لمضارعها، وإنما ينطلق من منطلق: قولي صواب لكنه ليس مطلقاً ولا نهائيا, بل هو قابل للخطأ بوجه من الوجوه, وقول غيري خطأ لكن قد يتوفر على ما يرشحه لمعانقة الصوابية في أحد مساراتها.

ثالثاً: التغيير لا يلزم أن يكون من خلال التخلي عن أفكارٍ لصالح نقيضها, أي أنه ليس بالضرورة أن يكون لوناً من الانقلاب على متبنيات الذات، وإنما قد يكون من خلال اكتساب أطر إضافية جديدة تبنى على ما سلف، وهنا يكون الفرد انتقل من مرحلة إلى مرحلة أعمق ثراء وأكثر غنى، فيكون قد جسّد لوناً من التطور الذي يقضي على الركود ويخلص الذهنية من الداء السكوني القاتل. إنّ الروتين الفكري يُعرض الفرد لمقتضيات الرتابة التي تقلل من إمكانية الجنوح نحو سبل التنمية الذاتية والتطلع لتحصيل الأطر المعرفية الباسقة. السكون يجهض فاعلية العقل ويزيد من استاتيكيته ويفني مبلورات الخبرة، ولا سبيل لتجاوز ذلك إلاّ عبر توسيع مصادر النمو وتوسيع مجال الكم الذي يتمخّض عنه بالضرورة رحابة في حقل الكيف, وزيادة المبنى زيادة في المعنى، وتضاعف الألق العقلي يحدو نحو تمحيص مواطن الخلل.

رابعاً: ليس كل تغيير محمود, فثمة من ينتقل من الوضعية الصحيحة إلى الوضعية السالبة ويستحيل من السياق المنطقي إلى السياق المضاد في حالة من الترحال الفكري المشوّه والذي لا ينم عن الظفر بأفق سامق من الوعي بقدر ما هو مؤشر على تيهان ثقافي وانعكاس لبعد إمعي ضارب في الأعماق.

ثمة ذهنيات فجّة توجّه مساعيها نحو التغيير لمجرّد التغيير فحسب! ولا تسأل بعد ذلك عن مدى حظه من المنطقية، فهو تغيير يجري من باب التقليد الاجتراري لا من طريق الاستبصار المعرفي, وهذا لاشك لون من التغيير الذي يفترض تجافي مغذياته.



Abdalla_2015@hotmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد