إنني عندما أطلع على الكتب والدراسات التي اهتمت برصد سيرة الملك الموحد المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود -عليه رحمة الله- أرى أمامي في شخصية الملك صورة مجسدة للحكمة والشجاعة العربية، ونموذجاً بشرياً يوضح أثر عمق الإيمان والتوكل على الله في تحقيق الغايات الكبرى،
وعقلية عبقرية قادرة على الإقناع واستمالة العدو والخصم قبل الصديق، وذهنية صافية تحسن قراءة المشهد السياسي وتتمكن من إدارة الصراع وفق متطلبات المرحلة مع مراعاة نقاط القوة والضعف لدى النفس والآخرين، وإنساناً متواضعاً قريباً من الصغير والكبير.
ولكني أتحسر كثيراً عندما أدرك أن هذه الكنوز كانت ومازالت حبيسة الكتب ورهينة البحوث وأنها حتى اللحظة لم تجد -في ظني- الاهتمام الإعلامي الاحترافي الذي ينطق حروفها ويحرك أجساد شخوصها، ويضعها في قوالب إعلامية مترابطة ذات بعد رسالي هادف.
فالمواد الإعلامية التي تتحدث عن سيرة الملك الراحل العظيم -وللأسف- مازالت دون مستوى السمات القيادية التي اتصف بها، وهي في معظمها قاصرة عن نقل الصورة الكاملة للظروف الصعبة التي مرّ بها في مسيرة التوحيد والبناء، وهي تعرض اليوم على المتلقين على عجل ودون تطوير يذكر باعتبارها أضحت مادة إعلامية موسمية تعرض في المناسبات الوطنية والاحتفالات العامة ثم تحفظ في الأرشيف لحين الاحتياج إليها بعد عام أو عامين!!.
ولا أدري لماذا تظل الرسائل الإعلامية الناقلة لتاريخ ومنجزات البطل الأسطورة أقل (في الغالب) من الدرجة المهنية المطلوبة؟.. ولا أعرف سبباً واحداً وراء تنمط التعاطي الإعلامي مع حياة الإمام الفذ في قوالب محددة مكررة تطفئ بريق الشخصية بكثرة تكرارها على ذات المنوال؟.
وهل الكسل الذهني هو الذي أدى إلى حصر مادتنا الإعلامية المتناولة لسيرة البطل العظيم في لقطات تلفزيونية متفرقة (غير مخدومة فنياً ومفتقرة لعنصري التشويق والتوثيق)؟.
إن هذا التعامل الإعلامي -من بعض القنوات- فيه إجحاف وجحود من أبناء الوطن تجاه رمزه الكبير وباني وحدته الشامخة ومرسي قواعد دولتنا الحديثة -رحمه الله رحمة واسعة-.
ونحن -كمراقبين ومفكرين- نلمس لدى القيادة السياسية ومن دونها المؤسسات الحكومية -ذات الصلة- رغبة عارمة في تعميق حسّ الانتماء الوطني لدى السعوديين.. وأعتقد جازماً أن من أهم عوامل تحقيق هذه الغاية هو أن تعمل الجهات المعنية على إنتاج برامج تلفزيونية عالية الجودة تبحث في سيرة الملك البطل عن المواقف النضالية الخالدة، وتستجمع أبرز صور ومواقف تسامحه رحمة مع الخصوم والمخالفين من أبناء شعبه، وتوثق أجمل عبارات الملك الراحل الحاثة للرعية على الوحدة وجمع الكلمة مع بذل النصح للحاكم. ثم تتم معالجة وتوظيف هذه المعطيات في سياق درامي وعبر قوالب فنية حديثة وجذابة وعبر استخدام التقنية الحديثة في العرض والإيضاح، مع الأخ بعين الاعتبار أن تكون هذه المواد الإعلامية ملائمة للعرض في التلفزيونات والمدارس والجامعات، وأن يراعى عند اختيار المفردات إمكانية الترجمة للغات الأشهر في العالم.
وإذا كانت المملكة العربية السعودية اليوم بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز استطاعت أن تصنع لها عند زعامات العالم وقياداته السياسية مكانة مرموقة. كما أنها نجحت أيضاً في أن ترسم لها لدى قادة الفكر والرأي في الغرب والشرق شخصية إنسانية وحضارية.. فإنها مطالبة في هذه المرحلة بأن تسعى لكسب تعاطف واحترام وتفهم القطاع الأوسع في الغرب والشرق وهم -الشعوب- لتركيبتنا الاجتماعية وتكويننا الثقافي، وهؤلاء عادة يتلقون تصوراتهم ويشكلون مواقفهم عبر ما يتلقونه من وسائل الإعلام المختلفة وعلى رأسها الأفلام السينمائية المصنوعة على أسس احترافية وبصيغة تجارية.
ولتحقيق هذا الهدف فإن مؤسسات الإنتاج السعودي (التي تتفنن في إنتاج أفلام تكرس صورة السعودي المتخلف حضارياً) مطالبة بالإعداد لفيلم سينمائي ضخم، تحت إشراف فريق بحثي يضم أساتذة وباحثين في دراسات التاريخ السعودي المعاصر، يشرفون على وضع المخطط العام لكتابة السيناريو بحيث يبرز سيرة الملك عبدالعزيز ويرصد نقاط التحول الكبرى في مسيرة بناء الدولة، ويظهر المجالات ذات الصلة بالواقع المعاصر، (مثل دعوته للأخ بالحداثة وفق الشريعة، اهتمامه بحقوق المواطنين، وإعلائه من شأن المرأة، وحرصه على تدعيم الوحدة العربية..) مع إضفاء مسحة إنسانية واجتماعية على أجواء العمل تضيف إليه سمة الجاذبية والتشويق والبعد الإنساني الذي يأسر قلب المشاهد ويربطه بشخصية الفيلم الأساسية.. ومن ثم يوكل التنفيذ إلى ألمع مخرجي الأفلام التاريخية في هوليود ليتولوا تنفيذ الفيلم وفق الأسس الإخراجية الاحترافية وبإشراف فريق البحث السعودي، ومن ثم يتم تسويق هذا الفيلم عربياً وعالمياً وعبر المهرجانات المتخصصة ليكون أحد أدوات السياسة السعودية الخارجية تعريف الآخر بحقيقة تاريخنا وهويتنا الوطنية التي جسدها بحق الملك عبدالعزيز رحمه الله ورجاله المخلصون.
إنني أدرك أن ثمة حساسية معينة لدى كل المحبين لشخصية الملك عبدالعزيز -رحمه الله- إزاء تجسيد شخصية الملك عبدالعزيز رحمه الله (تمثيلياً)، ولكني أدعو هنا إلى مراجعة هذا الموقف مراجعة متأنية تأخذ بعين الاعتبار التأثير الكبير للمادة الفلمية -تلفزيونياً وسينمائياً- على الجيل الحالي من شباب المملكة الذين تسعى كافة مؤسسات الدولة الإعلامية والتعليمية والدينية إلى تعميق انتمائهم لوطنهم وتكريس علاقتهم الإيجابية به، وتعميق تعظيمهم لمكتسباته الدينية والدنيوية، وتحقيق هذه الغايات الكبيرة يتأتى عبر تطوير وسائلنا في عرض تاريخنا الوطني المجيد وفق آليات العصر الحديث وأدواته الفنية ذات التأثير الواسع.
ويتملكني دوماً شعور بالغيرة الوطنية عندما أرى اهتمام وتمويل مؤسسات الإنتاج الفنية العربية للأعمال الفنية التي تتناول إبراز السيرة الذاتية والنضالية لبعض الشخصيات العربية، وأحياناً بكلفة إنتاجية عالية (وقد تكون للمفارقة برأس مال سعودي) ومع أن هذه الشخصيات العربية لها قدرها ومكانتها في محيطها المحلي والإقليمي إلا أنها لم تحقق ربع ما حققه الملك الموحد سواء من منجزات داخلية تتمثل في تشييد المشروع الوحدوي الأول والأخير في تاريخنا العربي المعاصر، أو ما حققه رحمه الله من مكاسب سياسية لدولته ومحيطه العربي والإسلامي من خلال مشاركته الدائمة مع الأطراف السياسية النافذة والمؤثرة في حل قضايا ومشكلات المنطقة العربية حينها.
ثم إن مما يقوي فرص نجاح الأعمال الإعلامية الدرامية في تحقيق أهدافها، امتلاك الوطن لمؤسسة بحثية رائدة ومتخصصة في التاريخ السعودي المعاصر وهي دارة الملك عبدالعزيز التي نجحت في توثيق ورصد كافة الأطوار التاريخية التي مرّ بها الملك المؤسس منذ طفولته وحتى وفاته رحمه الله، ولو أوكل لها مهمة الإشراف على مثل هذه الإصدارات فإن مخاوف البعض من حدوث الأخطاء في الأعمال الإعلامية المتصلة بسيرة الملك الراحل ستتلاشى.
وقد توافر لدى الدارة اليوم كم هائل من الوثائق التاريخية والشهادات الشفوية عن سيرة الملك ومراحل بنائه للدولة السعودية الحديثة وهي لو انتقلت من أيادي الباحثين إلى عدسات المصورين ووجدت التوظيف الإعلامي الاحترافي ستشكل مادة ملحمية ثرية جذابة لعشرات المنتجات الإعلامية المختلفة (مسرحياً وسينمائياً وتلفزيونياً).
نعم.. لقد نالت مسيرة وسيرة وأعمال هذه الشخصية العظيمة حقها اللائق بها من قبل الباحثين والمؤلفين والمؤرخين وأهل الاختصاص كل في مجال تخصصه.. فقد رصد المؤرخون سيرته الكفاحية العطرة، واستخلص المخططون الإستراتيجيون أبرز معالم فكره السياسي وأسلوبه في إدارة الحكم، واستل التربويون من حياته الأسرية والاجتماعية مئات المواقف الخالدة، ووجد علماء الاجتماع في طريقته ومنهجه براهين على صدق نظرياتهم في كيفية بناء المجمعات الحديثة، وتعلم منه الدعاة وطلبة العلم بعد النظر وكيفية المواءمة بين الحداثة والأصالة في الفكر الإسلامي، وتناول أساتذة العلوم السياسية نصوص رسائله ومعاهدته بالنقد والتحليل فرأوا فيها من الدهاء (وفن الممكن) ما أبهرهم.. ولكن مهمة إيصال هذه الكنوز الثمينة لعموم الناس (إعلامياً) لم تبدأ بعد!.
Mhoshan2000@hotmail.com