تلقيت بكل أسى وحزن خبر وفاة الدكتور ناصر بن علي الحارثي، ورحيله عن هذه الدنيا، وفراقه لأهله وذويه وأحبابه. والموت أمر محتوم ومقدر في لوحه المحفوظ، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاً}. وموتة الدكتور الحارثي فاجعة وصدمة آلمتني، ولكن لا أحد يستطيع رد قضاء الله عز وجلّ فهو سبحانه وتعالى مصرف الأمور.

لقد فقدنا عالماً وباحثاً مميزاً، سخّر وقته وجهده وماله لخدمة الحضارة الإسلامية في مكة المكرمة خاصة والمنطقة عامة. عرفته طالبا للدراسات العليا بقسم الحضارة بجامعة أم القرى، وكنت أحد الأساتذة المناقشين لرسالته للدكتوراه في عام 1410هـ . ومنذ ذلك التاريخ والدكتور الحارثي، في سباق مع الزمن، يرصد معالم منطقة مكة الحضارية، من مواقع أثرية ومنشآت معمارية، ويوثق المدونات الخطية على الواجهات الصخرية في داخل مكة المكرمة وفي محيطها الجغرافي وفي الطائف وفي كافة أرجاء المنطقة، في سهلها وساحلها وجبالها وأوديتها، وأصبح بذلك أحد الخبراء النادرين في معرفة تراث وحضارة المنطقة.

رافقته في رحلات عديدة، وتابعت عن قرب دراساته وبحوثه، وكان لا يستأثر بما يملك من معلومات أو بما يستكشف من آثار ومعالم حضارية وتراثية، فقد كان همه الأول محاولة المحافظة عليها وإنقاذها من الضياع. كانت متعته الحقيقية الكشف والبحث والتجوال بمفرده في مناطق وعرة، وأماكن نائية ولم يكن يترك لنفسه الراحة أو الاستمتاع بإجازاته القصيرة والطويلة، وقد كنت أشفق عليه وهو على هذه الحال، ولكنه رحمه الله كان يؤمن برسالة ومسئولية تجاه تاريخ مكة وتراثها الحضاري، ولعله كان يسابق عجلة التطوير والنمو الذي تشهده المنطقة بكاملها، فما أن تقع عينه على أثر معماري أو نقش صخري ويلتقط له صورة أو وصف حتى يجده قد اختفي في لمح البصر، إما بإنشاء طريق أو جسر أو مزرعة أو تملك واستيلاء للمكان. وما من أحد من الباحثين والدارسين قصده في معلومة واستدلال على أثر أو معلم إلا كان خير معين. أهلته تجربته وخبرته العلمية أن يكون مستشاراً لدى وكالة للآثار والمتاحف لسنوات عديدة وامتد تعاونه عضوا في اللجنة الاستشارية في الهيئة العامة للسياحة والآثار، فكان دوماً الاستشاري والناصح الأمين والقطب الأقوى في اللجان التي عمل فيها، ليعمل بكل جد وإخلاص في جمع المعلومات وإعداد التقرير العلمية والفنية والتي كانت رافداً قويا في توثيق مآثر المسلمين وحضارتهم في مكة المكرمة والمدينة المنورة. ومن خصاله الحميدة أنه كان كريماً ومضيافاً وخدوماً لأصدقائه ومحبيه، وواجهة إعلامية لوطنه عندما يستقبل ضيوف البلاد من العلماء وأصحاب الفكر والأدب. ولئن رحل الدكتور ناصر الحارثي عن هذه الدنيا فإن ذكره وعمله سيبقى في عشرات المؤلفات والبحوث الرصينة التي كتبها وألفها أو شارك في إعدادها. ومن أشهر ما ألف بهذا الخصوص: موسوعة الآثار الإسلامية في الطائف، والمعجم الأثري لمنطقة مكة المكرمة، وكسوة الكعبة المشرفة في عهد الملك عبد العزيز، وأعمال الملك عبد العزيز المعمارية، والأحجار الشاهدية المحفوظة في متحف الآثار والتراث في مكة المكرمة.

ومن آخر إنجازاته العلمية الكبيرة الذي يعد خلاصة ربع قرن من العمل الدؤوب وتوج بالعمل الموسوعي الشامل لآثار العاصمة المقدسة مكة المكرمة . فيا ترى ماذا عسى أن نقول عن ناصر الحارثي، الذي كان يعمل بصمت ويمشى بدون أيما ضجيج؟ أقول أن الإجابة لدى جامعة أم القرى التي لم يبرحها طالبا ومعيدا ومحاضرا وأستاذاً ، فقد كرمها في حياته بهذا الإنتاج العلمي الغزير وكان يفتخر بهذه الجامعة ويشاهد نموها وتطورها. على هذه الجامعة مسئولية في المحافظة على تراث الدكتور الحارثي وتكريمه بما يستحق،وأعلم أن لديه مكتبة ثرية بأمهات الكتب المتخصصة وأرشيف من ووثائق الأصلية والمصورة وآلاف الصور الفوتغرافية والخرائط والرسوم وبإمكان الجامعة اقتنائها وحفظها في مكتبتها العامة أو في مركزها الحضاري، وهذا أقل ما تقوم به الجامعة.

وختاماً لا بد من كلمة أوجهها لوسائل الإعلام وللجهات المختصة التي سربت فاجعة موت الدكتور الحارثي بطريقة مشينة لاتليق بأسرته ولا تليق بشخصه رحمه الله ومكانته العلمية، وانتمائه لجامعة عريقة مثل جامعة أم القرى.

رحمك الله يا أبا باسم وألهم أهلك ومحبيك الصبر والسلوان فوالله إننا بفراقك لمحزونون وإنا لله وإنا إليه راجعون.