يُعد 7 سبتمبر 2008م هو الذكرى السنوية للأزمة المالية العالمية، حيث شهد العالم خلالها أسوأ أزمة اقتصادية منذ الكساد العظيم الذي أصاب العالم في ثلاثينيات القرن الماضي، وألقت هذه الأزمة بظلالها على اقتصاديات العالم أجمع، وأصبحت مخاوف الإفلاس والانهيار الاقتصادي تهدد اقتصاديات العالم نتيجة عدم الالتزام المسؤول بالواجبات الإشرافية والرقابية وكذلك عدم الالتزام بالسياسات المالية التي تشمل سياسة إدارة السيولة والربحية، وسياسة إدارة مخاطر الائتمان، وسياسة كفاية رأس المال، بالإضافة إلى انتشار أدوات مالية كالمشتقات التي يسودها الغرر والجهالة والتي تقوم على الاحتمالية والحظ، والمتاجرة في المخاطر فقامت هذه الأدوات على إعادة بيع القروض العقارية. لقد مضى عام كامل على مرور أزمة مالية عالمية غير مسبوقة في الآثار والنتائج، وبدأ كلهم بمن فيهم المحللون الاقتصاديون ينظرون إليها بحيرة.
ولم تكن المنظمات الخيرية بمعزل عن هذه الأزمة وهي المنظومة الأكثر رحمة وشفقة والأقرب لقلوب الناس لما لها من أهداف نبيلة ومساهمات كبيرة لمستفيديها، لقد انخفضت حجم الميزانيات التي تخصصها الشركات والمؤسسات الخاصة لمنظمات العمل الخيري نتيجة لكبر حجم الخسائر التي واجهتها، بالإضافة إلى قلة إسهامات رجال الأعمال والمانحين والمتبرعين لهذه المنظمات وانخفاض الإيرادات، والتي كانت تمثل مصدراً ورافداً أساسيّاً لتمويل برامج ونشاطات المنظمات في العمل الخيري والإنساني، أو من خلال زيادة الطلب على الدعم من قِبل المستفيدين الذين ستقل مواردهم بسبب قلة التبرعات، بالإضافة إلى زيادة المستفيدين الذين تأثروا بهذه الأزمة المالية العالمية، ولم تواجه المنظمات الخيرية قلة الموارد فقط، بل واجهت ارتفاع الأسعار نتيجة هذه الأزمة مما أثر في تكاليف المشاريع التي تقوم بتنفيذها، إضافة إلى المرحلة الصعبة التي مر بها العمل الخيري بعد أحداث سبتمبر 2001م، مما جعل المشكلة تتعمق بشكل أكبر.
وقد عبرت المنظمات الخيرية في العالم العربي عن آراء متباينة إزاء أثر هذه الأزمة المالية العالمية بعد مرور عام كامل عليها، وانقسمت أمام هذه الأزمة إلى قسمين: منظمات كان التأثير وقتيّاً، ولكنها استطاعت أن تتعامل مع هذه الأزمة وأن تضع الخطط المناسبة لها، وأن تتجاوزها وتحقق إنجازات في مصادرها التمويلية.
ومنظمات ما زالت تواجه الأزمة وتتذوق مراراتها الصعبة، وبالتالي كانت نتائج إيراداتها أسوأ من العام الماضي، كما كانت المنظمات الخيرية التي تعتمد على تمويل حكومي هي أكثر ضرراً.
ولعلي أحاول فيما تبقى من هذه المقالة أن أقف بعض الوقفات التي آمل أن تساهم في أن تتجاوز المنظمات الخيرية هذه الأزمة:
* تعد هذه الأزمة فرصة أمام المنظمات الخيرية لمراجعة أوضاعها وتصحيحها، وإعادة كتابة سياساتها وخططها الإستراتيجية وبرامجها، وتحديد أولوياتها، والتركيز على أعمال ذات عائد/جدوى أكبر مقابل تكلفة أقل، وأن هذه الاستراتيجيات والخطط لن تعرض المنظمة للخطر على المدى البعيد.
* أن تضع المنظمات الخيرية لها أهداف محددة وتعمل على تحقيقها، فالدراسات العلمية تقول: (إن المنظمات يمكن أن تصمد 25 عاماً في ظل الركود وعلى الرغم من تقلب الأسعار، شريطة أن تركز على الأهداف المحددة).
* على المنظمات الخيرية أن تستفيد من إدارة الأزمات، وأن تشكل فريقاً دائماً لقيادة الأزمات، وأن تضع خطة طوارئ لمواجهة تغيرات وظروف الأزمة، بحيث يضم الفريق مجموعة من المختصين بالاقتصاد والاستثمار وكذلك الإدارة، كما أن عليها أن تحدد أشكال وأنواع الأزمات وتضع لها الخطط والسيناريوهات المناسبة.
* لابد من دراسة الواقع ومحاولة استشراف المستقبل وذلك من خلال متابعة الدراسات والبحوث الاقتصادية والإدارية لتكون قادرة على التعرف على علامات الخطر المبكرة، ومن ذلك أن علماء الاقتصاد قد تنبأوا بوجود أزمة مالية قادمة منذ فترة طويلة، فلقد بُحَّ صوت المحلل المالي (بيتر شيف) على مدى عامين وهو يحذر من الكارثة الاقتصادية ولكن لم ينصت له أحد، وبعد أن وقعت الأزمة وكثر الضحايا وأفلست دول وشركات وزادت البطالة خرج الإعلام ليحلل الأزمة.
* إن تشخيص الأزمة هو مفتاح العلاج السليم، فتصور الشيء تصويراً سليماً ودقيقاً ومحايداً وموضوعياً هو جزء من تقديم الحل السليم الموضوعي الرصين، ومع الأسف أننا قد نتصور أننا قمنا بتشخيص المشكلة تشخيصاً دقيقاً ونفاجئ أننا قد أخطأنا في التشخيص ولم نشخص السبب الحقيقي وإنما قمنا بتشخيص الأعراض فيكون العلاج وقتيّاً .
* ضرورة دراسة الأزمات المالية التي مرت على الاقتصاد العالمي، وكيف تم تجاوزها ابتداءً بالانهيارات المالية في إنجلترا، والأزمة المالية في أوروبا في بداية القرن العشرين والذي ترتبت عليها الحرب العالمية الأولى، والركود الكبير (الكساد) في عام 1923م واستمر تأثيره حتى 1933م أي أنه استمر عشرة أعوام. وفي الستينيات وقعت عدة أزمات منها أزمة الديون البولندية ثم أزمات متعددة ومتشابهة في المكسيك والأرجنتين وكندا، ثم انهيار بورصة لندن في أكتوبر عام (1987م)، والأزمة الآسيوية التي عصفت ببلدان شرق آسيا في النصف من التسعينيات، وحدث بسببها انهيارات كثيرة في تايلاند واليابان وكوريا وماليزيا وإندونيسيا، وأخيراً الانهيارات الكبيرة وهو ما حدث بعد 11 سبتمبر 2001م.
* البحث عن مصادر استثمارية مستدامة وأوقاف بدلاً من الاعتماد على المصادر الآنية والقصيرة الأمد لتؤمن لها قدراً من الاستقرار المالي والإداري، وأن يتحول ذلك إلى مشروع عمل.
* البحث عن مصادر تمويل جديدة والعمل على استمراريتها، مثل دعم المنظمات الدولية الإغاثية والإنسانية.
* على منظمات العمل الخيري أن تعمل بسياسة الإدارة الرشيدة بأن تضع لها احتياطات ومخصصات كافية لمقابلة المخاطر المحتملة.
* ترشيد النفقات وزيادة الشفافية والإفصاح.
* ضرورة الضبط المالي والقانوني، وعدم الدخول في مشروعات غير مضمونة.
* لابد أن تقوم المنظمات الخيرية بإعادة النظر في الفكرة الجوهرية للعمل الخيري والإنساني، بأن يتحول العمل الإنساني الذي يتبلور معظمه في صورة إعانات وتبرعات فقط، إلى دعم تنموي لمشاريع صغيرة أو متناهية في الصغر لتساعد الفقراء على الخروج من دائرة الفقر.
* على منظمات العمل الخيري أن تتبنى فكرة توطين المشروعات بسبب شح وندرة الموارد وليقوم المحسنون المحليون بتبني هذه المشروعات.
* لابد أن تقوم المنظمات الخيرية بتقويم أدائها بعد الانتهاء من هذه الأزمة.
وأخيراً أقول.. إن هذه الأزمة عامة ولم تتأثر المنظمات الخيرية فقط، ولا يجب تجاهلها، ومع الإدراك بحجم التحديات الراهنة فهناك فرص وعلينا استثمارها.
ويبقى التحدي الكبير وهو: كيف ستنجح المنظمات الخيرية في تحقيق أهدافها في مثل هذه الظروف؟.
باحث في تخطيط وتطوير العمل الخيري