Al Jazirah NewsPaper Sunday  27/09/2009 G Issue 13513
الأحد 08 شوال 1430   العدد  13513
(بيتُ الحِكمة الجديد).. في ثُوَل
حمّاد بن حامد السالمي

 

* أنشأ الخليفة أبو جعفر المنصور (712-775م)، بيت الحكمة في بغداد - عاصمة الخلافة الإسلامية -، وكان يشرف عليه بنفسه. وطلب من إمبراطور الروم بعض كتب اليونان؛ فبعث إليه بكتب في الطب والهندسة والحساب والفلك.

* وواصل الخليفة هارون الرشيد (763- 809م) رعايته وإشرافه على بيت الحكمة هذا؛ فزوده بدفعة أخرى من الكتب بعد فتح هرقلة وإقليم بيزنطة.

* بلغ بيت الحكمة أوج ترقيه وعلوه، في عهد الخليفة المأمون ابن الرشيد (786-833م)، الذي كان يشرف عليه بنفسه، ويخصص له كثيراً من ماله ووقته، ويختار له العلماء المتمكنين من اللغات، واستقدم له من قبرص، خزانة كتب الروم؛ حتى أصبح بيت الحكمة في بغداد، خزانة كتب عالمية، ومركزاً للترجمة والتأليف، ومركزاً كذلك للأبحاث ورصد النجوم، وتميز بتعدد المصادر من كتب قديمة وتراجم، وظل قائماً حتى دمره المغول سنة (656هـ - 1258م).

* مثّل بيت الحكمة في بغداد في زمنه، منارة للعلم والمعرفة، بل كان أول جامعة للأبحاث والعلوم في التاريخ؛ فقد نهض آنذاك، بمهمة حوار الحضارات بين الشرق والغرب؛ فالتقت فيه حضارات عربية وإسلامية ويونانية وفارسية وهندية؛ فشكل نموذجاً رائعاً وحياً لما ينبغي أن يكون عليه حوار الحضارات في عصرنا اليوم.

* لم ينجح بيت الحكمة في بغداد، ويصل إلى ما وصل إليه من علو ورفعة، ويتمكن من أداء رسالته في نشر العلم، وإشاعة المعرفة، وبث ثقافة الحوار في عصره، لو لم يتوفر على قدر كبير من الحرية، الذي ساعد بدوره رجال العلم والفكر، على صياغة سياسة التسامح في العالم. وهذا ما ينبغي أن تتوفر عليه جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية في ثول: حرية في العمل، وانفتاح على العالم، وآفاق تتخطى جغرافية الإنسان والمكان والثقافة.

* لم أجد ما أعنون به مقالي هذا، أفضل من الوصف الذي أطلقه الملك المصلح (عبدالله بن عبدالعزيز) - حفظه الله - على جامعة الملك عبدالله في ثول حين قال: (هي بيت الحكمة.. الجديد). يكفي أن عبدالله بن عبدالعزيز، هو الذي يشرف عليها بنفسه، ويمنحها من فكره ووقته وجهده ما تستحق؛ لكي تحقق الأهداف التي أنشئت من أجلها؛ فالفكرة الرائدة التي كانت تراود عبدالله بن عبدالعزيز طيلة ربع قرن، أصبحت حقيقة ماثلة، وواقعاً ملموساً. وإطلاق جامعة علمية عملاقة، من أرض المملكة العربية السعودية، بهذه الحفاوة الدولية الكبيرة، في حضور زعامات سياسية، وقيادات فكرية وعلمية عالمية حاشدة، يؤكد أن جامعة الملك عبدالله في ثول ليست ككل الجامعات التي نعرفها؛ فهي مكان لذوي الأفكار الكبيرة، والطموحات الكبيرة، والأهداف الكبيرة؛ فتميزها عن بقية الجامعات يكمن في أنها جامعة للأبحاث العلمية؛ فهي سوف تكون في المستقبل رائدة وقائدة لبقية الجامعات، خاصة الجامعات السعودية، إذا توفر لدى هذه الجامعات، الطموح الكافي، بأن تغادر ذيل الترتيب في سلم الجامعات الدولية إلى المقدمة.

* ذكر رئيس الجامعة، البروفيسور (تشون فونغ شي)، أن أهداف الجامعة تتلخص في: (بناء قاعدة دراسية علمية وتقنية صلبة، وتسخير هذه القاعدة لتنويع اقتصاد المملكة وتحويله إلى اقتصاد يقوم على المعرفة، وإحداث تغييرات إيجابية في حياة الناس، سواء هنا في المملكة، أو على مستوى العالم).

* إن تحويل المجتمع السعودي إلى مجتمع معرفي، ليس بالأمر السهل، ولن يتأتى هذا الحلم، في يوم وليلة. وواضح أن من مهام هذه الجامعة العملاقة، تحويل المجتمع السعودي إلى مجتمع معرفي، وإحداث تغييرات إيجابية فيه؛ انطلاقاً من المعرفة نفسها. إن الأمية ليست هي فقط الجهل بالقراءة والكتابة، ولكن الأمية الأعظم، هي الجهل المعرفي الذي يقف بصاحبه عند حدود زمانية ماضوية، لا تساير العالم، ولا تعرف ما يدور فيه؛ وبالتالي فهي تعادي جديده، وترفض أن تنخرط في مسيرته.

* إن قيام جامعة كهذه في بلادنا ليس غريباً، ولكن الغرابة في أن تسبقها ثماني جامعات بعدة عقود؛ فتظل دون تحقيق أي إنجاز علمي أو معرفي أو بحثي لافت، ولا حتى في نوعية مخرجاتها، وما كان لافتاً أكثر هو مكانة هذه الجامعات في سلم الترتيب الدولي للجامعات، الذي أقل ما يقال عنه إنه مخجل.

* تخرج جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية في ثول إلى العالم، من ركام التطرف، وزحام التشدد، وزكام الترصد لكل جديد إصلاحي يأخذنا إلى الأمام، ولو خطوة واحدة؛ فهي إذن تولد من رحم ثقافية مثخنة بجراح الدعوة إلى التخلف والرجعية، وتكريس الماضوية، وفرض الوصاية على خلق الله في الداخل والخارج؛ فرسالة الجامعة الرائدة إذن، لا تنحصر في البحوث والدراسات، ومنح الدرجات العلمية فقط، ولكنها تتعدى إلى خلق جو عام من الانفتاح الثقافي على كافة الحضارات والثقافات والديانات دون قيود أو شروط. إن من شأن مثل هذا الانفتاح الثقافي والعلمي والمعرفي، الإسهام في التغيير الاجتماعي السعودي الذي سوف يمتد إلى أجيال وأجيال قادمة في هذه البقعة من العالم.

* لخص الملك عبدالله - حفظه الله - رؤيته لرسالة الجامعة، وأنها سوف تكون منارة للسلام والمصالحة والأمل، وستكون في خدمة شعب المملكة العربية السعودية كافة. وإطلاق الجامعة في مناسبة وطنية عزيزة على قلوبنا، في يوم احتفالنا باليوم الوطني، يحمل دلالة كبرى على أهمية الرسالة المؤملة من الجامعة، في التغيير نحو الأفضل، وتبني الأفكار التنويرية والتطويرية، ودعم البحوث العلمية والمعرفية، ونشر ثقافة الحوار والتسامح بين الشعوب؛ فالجامعة العلمية العالمية تجمع طلاباً وطالبات وأساتذة سعوديين وعرباً وعجماً من شتى بقاع الأرض، والعالم المعاصر كله مُمثّل في (بيت الحكمة الجديد) في ثول.

* إذا لم تكن هذه رسالة (بيت الحكمة الجديد)، فما هي الرسالة الأهم له، في هذا الزمن الرديء يا ترى..؟



assahm@maktoob.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد