التصدي لمباشرة أنشطة التثقيف والقيادة الفكرية للوعي العام قضية منوطة بالفاعل الصفوي - نسبة إلى الصفوة - بحسبه متوفرا على ضرب من الزخم المعرفي ولديه منظومة من عوامل البلورة للمنهج الذي سيقتفيه إبان صناعة الخطاب التثقيفي..
الذي يراد له تسيير دفة الحياة العصرية. تلك المسؤولية تفرض القيام بأدوار متنوعة تحاول هذه القراءة إضاءة جملة منها وعلى سبيل الإيجاز.
أولاًَ: توحيد الصف وجمع الكلمة لابد أن يمثل أولوية في خطاب المثقف, ومن غيرالسائغ توظيف مواقع التأثير والاستثمار فيها لصالح تشتيت الشمل وإثارة العنصرية الفكرية أوبث التعصبات القبلية وتفجير الخلافات المذهبية بين أبناء المجتمع الواحد. إنه لايليق بالفاعل النخبوي أن يلعب دور المقوض لمتانة اللحمة؛ لأنه في هذه الحالة يكون غير جدير بأن يُنعت بالإصلاح وحينها يكون المشتغل على الخطاب الثقافي مجرد أداة هدمية وعبارة عن مصدر لترويج الانقسام, وخلخلة المنحى الأمني والتسويق لروح المشاكسة المقيتة التي تُقطّع أوصال الجسد الاجتماعي وتجعله يعج ببواعث الاحتراب الداخلي.
إن ثمة فرصا كثيرة ومداخل متعددة لإمكانية توحيد الصف وجمع الكلمة وذلك كأصول الاسلام وقضية الايمان والانتماء إلى وطن واحد والتعايش المشترك على أرجائه، إن هذه المعاني قواسم مشتركة بين عموم الأفراد يمكن التجمع على ضوئها, ولذا فلابد من تفعيلها كبنية أساسية في سبيل الوحدة المتراصة والاتحاد البيني المتماسك.
ثانياً: المثقف النخبوي الحر الذي يمارس الإصلاح من خلال التنظير لاتجاه ثقافي معين له مطالبه ومحكاته يفترض أن يكون على مستوى كبير من الحضور الاستقلالي وعدم الانتماء إلى أطر حزبية أوتحزبات فكرية، أومناطقية أوفئوية ضيقة. المثقف يفتقد جزءاً كبيراً من مصداقيته عندما يكون متحدثاً بالنيابة عن حزب أوجهة أومؤسسة مّا لأنه في حالة كهذه يضيق واسعاً فيعمل على تجزئة الكلي وتخصيص العام وتقييد المطلق وفي النهاية تكون اعتباراته محصورة في معاينة المصالح الدونية الضيقة التي قد تكون على حساب الصالح العام. الفاعل الثقافي الجدير بوظيفته ينطلق من اعتبار المصلحة الجمعية ومن خلال منظومة الأسس والمفاهيم والمبادئ التي يؤمن بها فالحقيقة نصب عينيه لا يحيد عن الخطوط القائمة والمتصلة بمنابعها.
ثالثاً: ضرورة التلبس بالحس المصلحي العام. حيث إن مجاوزة حدود المنافع الذاتية والانعتاق - والمسألة هنا نسبية بطبيعة الحال - من حظوظ الأنا يفترض أن يُضْحي من أبرز المحاورالتي تذهب باهتمامه ومن ثم يكون الملمح الجوهري لاشتغالاته يتكئ على البذل اللامشروط والعطاء المجاني المستصحب لشعور عارم بضرورة توجيه العوائد الإيجابية من ذلك العطاء لتصب في رصيد المجموع العام.
ثمة من يوظف الاشتغال الثقافي لمضاعفة رصيده المصلحي وللظفر بألوان المنفعية العاجلة أوالآجلة فهو يتغيا باستمرار تجسيد مكتسبات إضافية لشخصه على نحو يشي بحالة من الغياب الذريع للبعد الأخلاقي العميق, الشأن الذي يحدو مثل هذا الصنف نحو تحويل وظيفته التبليغية إلى مهنة وظيفية, وليس وارداً في ذهنه أن يجعل من مهارته المعرفية ومخزونه البياني وقودا حيا لتحريك العقل الجمعي وهدايته نحو أسرار تساميه. وإنما جُلّ همه أن يقتات من هذا العمل وأن يحدس بالممكن الذي يتاح له من خلاله أن يكون مغمورا بالأضواء وعلى تواصل متواصل لايَنبتّ بمصادر النفع الشخصي؛ إن ثمة بونا شاسعا جدا بين ذلك الخطيب الذي يعتلي درجات المنبر للحصول على حفنة من المال أولقيمات من الطعام وبين ذلك الذي اتخذ من الخطابة رسالة تبشيرية يعيشها بعقله ووجدانه؛ وثمة مساحة هائلة جدا بين ذلك الكاتب الذي يجعل من قلمه معبرا عما يستكن في خلده المسكون بالهم العام على نحو يحدوه للاشتغال على تعميق مستوى الحراك التصحيحي وإضفاء المنطقية على المسيرة الكلية, وبين ذلك الكاتب الذي تطلعاته المادية المجردة تفرض عليه حصر اهتماماته في تعبئة عموده اليومي وتذييله باسمه, وسد الفراغ الورقي بآلية روتينية رتيبة تئد الإبداع, وهو غير آبه بإيجابية هذا الطرح من عدمه, وهل هو يقدم إضافة معرفية للمتلقي أوهو مجرد تناول تكراري لايشبع نهم المحترف القرائي, هذا فضلا عن ذلك الذي وظف بَنانه لاستفزاز مشاعر الرأي العام من خلال التعاطي غير الموضوعي المرتكز على الانشقاق على الأسس الفكرية التي تشكل ملامح المجموع الكلي.
رابعاً: لإسباغ المشروعية على خطاب التثقيف لابد من ضرورة توفرالمثقف المُثقَل بالتطلع الترشيدي على زاد معرفي سميك وخصوصا في الجوانب الشرعية وعلى نحو أخص في الأبعاد العقدية بحسبها الأفق الترشيدي الذي يؤطر حركة الخطاب ويمنطق مفرداته.كثير من الاطروحات تفقد زخمها ويتوارى ألقها وتنطمس معالم جاذبيتها, بل وكثيرا ما تقوض من حيث تروم التشييد! نتيجة لتواري الشرط الشرعي وعدم التوفرعلى مناخ مكين من الإدراك المعرفي المؤصل, وعدم التشبع بتلك الخلفية الثقافية الممنهجة التي تنبعث على ضوء الرؤية السماوية وتنضبط بمحدداتها المنهجية. الصدورعن الخلفية الشرعية واستلهام توجيهاتها وادارة الحركة ضمن فلكها أمرمن شأنه توفير تغطية استدلالية معتبرة وإثراء الخريطة الفكرية ومدها بعناصر الإبداع وتأمين الشروط المؤسسة لمعالم النجاح في مخاطبة المعنيين بمفردات الرسالة التنويرية. ولو تمعنت في سياق المشهد اليوم لألفيته يعج بزخم قراءاتي يُقدم بوصفه ضربا من الإضاءات التحليلية مع أنها عند التحقيق يتجلى أنها نائية كل النأي عن اعتبار معطيات الوحي التي عندما يجري تهميشها وبتّ تلك الصلة القدسية فإن الخطاب حينها سيصادرالأفق الغائي الذي من أجله جرى إنشاؤوه!,وحينئذ لن يفلح إلا في إرباك الوعي وزيادة معدلات التسطح.
Abdalla_2015@hotmail.com