Al Jazirah NewsPaper Thursday  17/09/2009 G Issue 13503
الخميس 27 رمضان 1430   العدد  13503
شيء من
تجارة الطب وغياب الأنظمة
محمد بن عبداللطيف آل الشيخ

 

يقول خبرٌ نشرته الوطن : (أبرق فرع الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان بمنطقة مكة المكرمة لإدارة الشؤون الصحية بالمنطقة لإيضاح الموقف من بلاغ تقدم به أبو بكر محمد حسن يفيد فيه بإجباره على كتابة تعهد لمستشفى خاص - تحتفظ (الوطن) باسمه - بتسديد 600 ألف ريال قبل السماح له باستلام جثة ابنته المتوفاة بإنفلونزا الخنازير).

لا أعتقد أن مثل هذا التعهد (الفضيحة) سيمر مرور الكرام على مسؤولي وزارة الصحة، سيما وأن خادم الحرمين الملك عبدالله بن عبدالعزيز - حفظه الله - كان قد أمر بأن تتحمل الدولة مصاريف علاج ضحايا هذا الوباء.

غير أن الذي أريد أن ألفت إليه الانتباه هنا هو أن (الطب) - أسمى المهن في تاريخ الإنسانية - أصبح لدينا تجارة، وتكاليف و(مساومة)؛ حتى أصبح الإنسان يقف أمام هذه الممارسات وهو لا يدري هل مثل هذه الفوضى، والاستغلال، والجشع، والتعامل مع المريض وكأنه (زبون)، وعملية العلاج وكأنها (مقاولة)، ممارسات تمت لهذه المهنة الإنسانية بصلة؟.. وهل هذه الحالة المنفلتة التي يعيشها (سوق الاستشفاء) تواكب غاياتنا التنموية التي نطمح إليها، ونحث ركابنا للوصول إليها؟

أعرف أن الخدمة الصحية لا بد وأن يكون لها (ثمن) مثل غيرها من الخدمات. والمؤسسات الطبية المتخصصة في الغرب حيث منبع العلوم، ومصدر الاكتشافات، ليست (جميعها) مؤسسات حكومية، أو منظمات نفع عام؛ فأعظم وأكبر شركات الأدوية شركات تجارية تسعى إلى تحقيق الربح، وكذلك الأمر بالنسبة لشركات تصنيع وتطوير الأجهزة الطبية التي يحتاجها الطبيب لعلاج الأمراض أو لتشخيصها، وكذلك المستشفيات ودور الرعاية الطبية. حافز الربح والمردود المادي هو أحد الأسس الرئيسة التي دفعت البحوث والمخترعات والتكنولوجيا الطبية، وكذلك الخدمات الطبية، في عصرنا إلى الأمام، وإلى هذه المستويات التي حقق فيها الطب إنجازات مُبهرة قياساً بالماضي القريب أو البعيد. غير أن هذا هو جزء من الحقيقة وليس كل الحقيقة. فمثلما أن الغرب والشرق يعج بالشركات الطبية سواء في مجال الأدوية أو شركات الآلات الطبية، التي تسعى إلى تحقيق الربح، هناك في المقابل شركات (التأمين) الطبي، وأنظمة الضمان الصحي، تقوم بمهمة حماية الإنسان من استغلال المنشآت (التجارية) الطبية، وفي الوقت ذاته مكّنت الشركات، ومؤسسات البحوث الطبية، ومراكز الاستشفاء، من الحصول على (المردود المادي)، بما يجعل دورة الخدمة الطبية في النتيجة خدمة مربحة من خلال (التكافل) الاجتماعي المتوازن، وليس من خلال الاتجار (الرخيص) بالطب وتسليع العلاج؛ وتسويق الخدمات الطبية، وكأنك تروج (الوهم) لتبيع الخدمة؛ ومن يقرأ الإعلانات التي تمتلئ بها وسائل إعلامنا للمنشآت الطبية يصل إلى هذه الحقيقة المخجلة.

مشكلتنا أننا (خصصنا) القطاع الطبي، وشجعنا المنشآت الطبية التجارية، وفتحنا الباب على مصراعيه لتجارة الاستشفاء، دون أن نضع في المقابل (أنظمة) محكمة للتأمين الطبي تشمل الجميع، وأجهزة رقابية صارمة على هذه الأنظمة، تمنع استغلال هذه الخدمة الإنسانية استغلالاً بشعاً، حتى أصبح (التحفظ) على جثة المتوفى - كما في هذا الخبر - تصرفاً مبرراً كي تضمن المنشأة الطبية (التجارية) حقوقها المادية!.. لسان حال المنشأة الطبية التي احتجزت الجثة يقول: لسنا مؤسسة نفع عام، ولا بد من الحفاظ على حقوقنا، ووالد المتوفاة يقول: من أين لي بهذا المبلغ (الضخم)، فأصبحت في النتيجة جثة الميت هي وسيلة (السداد) في القضية.

ولا يمكن أن نصل إلى هذه المرحلة المعيبة إلا في حالتين: غياب الأنظمة، أو وجود الأنظمة، وغياب (الرقابة) التي من شأنها الحد من هذه الانحرافات غير الإنسانية؛ والحالتان منوط تنفيذهما بوزارة الصحة في التحليل الأخير.

إلى اللقاء.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد