أعباء احتلال الدول واستباحة أراضي وأوطان الآخرين، تفرز كثيراً من المشاكل للدول التي تقوم بالاحتلال، فبالإضافة إلى التكاليف المادية والخسائر في الأرواح، وأمامنا الولايات المتحدة الأمريكية كنموذج، والتي تدمّر اقتصادها وتضخمّت قائمة خسائر جنودها، بسبب التورط بالحرب على العراق وأفغانستان واحتلال أراضيهما .. وفوق كل هذا تشوِّه صورة البلد الذي احتل تلك البلدان، ولا تغفر لهم ادعاءات نصرة الديمقراطية والقضاء على الدكتاتورية وإنهاء حكم المستبدين.
وتضيف الإفرازات السلبية للاحتلال، تشويهاً أكثر لسمعة قوات الاحتلال وبلدانها، فالجيوش المحتلّة تعاني كثيراً من التصرفات الشاذة لجنودها، فبالإضافة إلى قيامهم بتعذيب الأسرى الذين يقبضون عليهم بقصد انتزاع الاعترافات والحصول على المعلومات، هناك أيضاً الأفعال الشاذة التي يرتكبها جنود الاحتلال ضد أبناء البلد المحتل وارتكاب عمليات الفساد والسرقة.
فكثيراً ما تفرز حروب الاحتلال أجهزة وأنظمة فاسدة، مثل التي نتجت عنها فضيحة استخدام التعذيب من جانب عملاء CIA، فقد كشفت جريدة (New York Times) بتاريخ 13 أغسطس 2009م أحد أهم المشاركين في (أعمال التعذيب) اسمه كايل فوغو (Kyle Foggo) الذي كان يشغل منصب المدير التنفيذي لوكالة الاستخبارات المركزية في عام 2006م، وهذا منصب ثالث في سلّم المناصب من جهة أهميته.
كان فوغو مكلفاً بالمراقبة على بناء ثلاثة سجون سرية واقعة في المغرب ورومانيا وإحدى الدول الاشتراكية السابقة، التي يفضِّل موظفو CIA ألاّ يسمّوها، ولتغطية احتياجات السجون، تم شراء وتوصيل أجهزة الرؤية الليلية وأدوات البرادة من الولايات المتحدة والتي حُوِّلت إلى أدوات التعذيب. وما كانت الحاجة هناك إلى أجهزة مخصصة للتعذيب بالمياه، إذ تم شراؤها من الأسواق المحلية، وتميّز المهندسون البناة بالمجاملة تجاه المعتقلين (..!!)، إذ غطّوا جدران غرف التعذيب بخشب رقائقي، الأمر الذي حفظ المعتقل من إصابات مرئية في حالة رميه إلى الجدار.
وبهدف إجبار المعتقل على الحديث تم استخدام حرمانه من النوم، وكحالة لهذا التعذيب تعرّض أبو زبيد 83 مرة خلال عدة شهور في سجن قريب من بنكوك في تايلاند للتعذيب بالتغريق، واخترع عسكريان مقالان (ميتشيل وجيسين) اللذين استأجرهما CIA أساليب الاستجواب. وتحوّل بناء السجون إلى أعمال تعود بالربح، فمنح فوغو لصديقه وايلكس، وهو صاحب الشركة الصغيرة، مقاولة قيمتها 1.7 مليون دولار لتوريد المواد لبناء السجون السرية. وفي المقابل استراح فوغو عدة مرات في المنتجعات الفاخرة على حساب وايلكس، كما استفاد منه خدمات غالية. وأصبح مخترعا أساليب التعذيب ميتشيل وجيسين صاحبي الشركة المستأجرة بالحكومة الأمريكية وفيها 60 موظفاً، وتراوح راتبهما ما بين ألف وألفي دولار يومياً.
لفتت نشاطات فوغو عام 2007م اهتمام المحكمة الأمريكية، لكن لم يكن اتهامه مرتبطاً بلجوئه إلى التعذيب في تلك السجون السرية، وحُوكم هذا الموظف عالي المستوى بالسجن لمدة 3 سنوات بتهمة سرقة الأموال أثناء بناء تلك السجون.
أما محاكمة فوغو وموظفين آخرين مارسوا التعذيب بتهمة ممارسة التعذيب، فهذا أمر شبه مستحيل، ومع أن الرئيس أوباما الذي رفع برنامج استخدام السجون السرية، قد أشار إلى مثل هذه التجاوزات وأنه لا يريد أية مشاكل لمخترعي هذا البرنامج ومنفذيه من وكالة الاستخبارات المركزية، وبالرغم من أنّ الرئيس الأمريكي أعلن وقف ممارسة التعذيب والقبض غير الشرعي على مشتبه فيه بالإرهاب، إلاّ أنّ السلطات الأمريكية تخفي الحجم الحقيقي لهذه الجريمة. وتشير مقالة جريدة (New York Times) إلى تصريحات ممثلي الإدارة الأمريكية، أنّ عدد المعتقلين في السجون السرية خارج البلاد زاد 100 نسمة. ولكن في نفس الوقت وفقاً لمعلومات الاتحاد الأمريكي للحريات الوطنية (American civil liberties union-ACLU www.aclu.org)
ازداد عدد السجناء في سجن بنتاغون الواقع في بغرام الأفغاني 6 أضعاف وبلغ 650 شخصاً، ويشير حماة الحقوق إلى أنّ عدد معتقلي بغرام خرافي بالنسبة لمعتقلي غوانتانامو وخارق لمعاهدة جينيف عام 1949م إذ لا يحظون إطلاقاً بالمساعدة القانونية، وهم في ظروف الفراغ الحقوقي الكامل دون المحاكمة أو التحقيق وفترة سجنهم غير محددة، ولا يمكنهم مماراة احتجازهم، ولهذا السبب تعبِّر منظمات حقوقية غير حكومية عن قلقها البالغ، وتعتقد أنّ في ظروف نقل اهتمام أوباما مكافحة الإرهاب إلى أفغانستان بما فيه زيادة عدد القوات الأمريكية فيها، لن تتحسن الحالة في سجن بغرام، وبالعكس ستؤدي أعمال قتالية إلى زيادة عدد المعتقلين في هذا السجن الممتلئ للغاية، ومن المتوقع أنه سيتم نقل بعض المعتقلين من غوانتانامو إلى بغرام.
jaser@al-jazirah.com.sa