أشرت من قبل إلى أن هذا هو عنوان رسالة والدي -رحمه الله- التي نال بها درجة الماجستير عام 1403هـ، ومما خلص إليه في الباب الأول من الرسالة (عالمية الإسلام وخلوده واستمرار دعوته) أنه لا تعارض بين الإخبار القرآني بأن انتشار الإسلام سمة من سمات هذا الدين وبين الأمر الرباني بوجوب الدعوة إلى الله إذ إن الذاتية لوحدها كما أراد الله عز وجل لها عاجزة عن الانتشار الشامل والانتصار الكامل الذي يُراد لهذا الدين الخالد، إذ لا بد من بذل الجهد من قبل المسلمين عموماً لإيصال صوت الإسلام إلى العالمين، وفي هذا امتحان من الله لأتباع دينه منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وحتى اليوم وإلى قيام الساعة، واستمرار الدعوة إلى الله ووجود الدعاة الذين يبذلون وقتهم ومالهم وجهدهم في سبيل الله، يرجع - في نظر الباحث - إلى باعثين:
الأول: شعور المسلم بواجب الدعوة إلى الله، وهذا الشعور يتولد من إحساسه بأهمية هذا العمل التّعبدي لله، فالدعوة والتبليغ والبيان وظيفة الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة وأتم التسليم، وهي إرشاد ودلالة للناس إلى منهج الحق وطريق الهدى، وهي سبيل إلى مرضاة الله في الآخرة، وكذلك سبيل لنصره في الدنيا، والقيام بها فرض على هذه الأمة، وكل فرد فيها مسئول مسئولية مباشرة عن القيام بواجب الدعوة في حدود ما قدر الله له ويسر، والتقصير في الدعوة إلى الله تفريط بهذا الدين وإعراض عنه.
الثاني: شعور المسلم بضرورة الدعوة إلى الله، فهي فوق أنها واجب شرعي هي كذلك ضرورة قائمة يدفع إليها الشعور بالتحدي العقدي والفكري بل وحتى السياسي والعلمي والذي يحدثه في نفس كل مسلم ما يراه ويحس به من كيد وعداء شديدين لهذا الدين من مختلف الملل والنحل، وإن اختلفت الآليات وتباينت المسببات وتعددت الأشكال والهيئات.
والدعوة كما يعرضها الوالد في رسالته ليس لها لون واحد ولا يحدها حد وليست خاصة بفئة دون أخرى.. بل هي كل عمل يفعله المسلم من أجل إيصال رسالة الإسلام وتنقية صورته في أذهان العالمين سواء أكانوا مسلمين أو غير مسلمين، وإن كانت الوسيلة الأكثر شيوعاً والأقوى أثراً الكلمة.. وللكلمة التي تأتي في هذا السياق التعبدي الخالص ضوابط ومحددات مهمة عرض لها الباحث وبتوسع في ثنايا رسالته أولها وأهمها العلم، ثم التدرج في التبليغ، والدقة والوضوح في العبارة، وأن يكون الأسلوب معبراً ومؤثراً وصالحاً زماناً ومكاناً وحجة وبياناً، ثم تحدث -رحمه الله- عن القدوة والتي هي أرقى أنواع التربية، فالقدوة -كما يقول عنها الباحث في رسالته- واقع حسي ملموس يدعو إلى الامتثال بالعمل قبل القول وكما قيل: (لسان الحال أبلغ من لسان المقال)، فالمنهج العقدي أو الفكري يظل كلاماً يُتلقى ولا يكون حقيقة إلا إذا تُرجم إلى واقع حسي ملموس يضفي على صاحبه صفة التميز ويشد الانتباه لكل ما يقول، وحاجة الناس إلى القدوة نابعة من غريزة تكمن في نفوس البشر أجمع ألا وهي التقليد.. والنماذج البشرية المثيرة للإعجاب تفرض تأثيراً قوياً على الجماهير، وهذا التأثير يحرك في الناس دوافع المحاكاة والتقليد، ولذا أرسل الله الرسل ليكونوا هم من يبحث الناس عنهم، ومن بعدهم الدعاة والمصلحون، وكما قال الشيخ محمد الغزالي -رحمه الله-: (إن صلاح المؤمن هو أبلغ خطبة تدعو الناس إلى الإيمان وخلقه الفاضل هو السحر الذي يجذب إليه الأفئدة ويجمع عليه القلوب)، وليتحقق استمرار وجود القدوة بين المسلمين وفي حياتهم أفراداً وجماعات ركز الإسلام على جانبين مهمين تتمثَّل بوجودهما القدوة، وهذان الأمران هما:
* الخلق الحسن بمعناه الواسع
* ارتباط القول بالعمل وتوافقهما في حياة المسلم - الداعية.
وفي المبحث الثالث في هذا الباب الأخير والهام من الرسالة القيم في نظري كان الحديث عن الجهاد في سبيل الله من أجل فتح الطريق للدعوة إلى الله عز وجل، وفيه توسع -رحمه الله- في بيان مفهوم الجهاد، ومتى يكون، وما هي غاياته في الإسلام، وما أثره في الدعوة إلى الله، وهل يتعارض الأمر به مع قول الله عز وجل: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ...)، إلى غير ذلك من القضايا الساخنة حتى اليوم، رحم الله أبي وجمعنا معه في عليين، اللهم آمين، وإلى لقاء.