لقد أحزننا -يعلم الله- ما قام به أحد المنتسبين إلى هذه الثلةِ المبطلة من الجريمة النكراء والكبيرة الدهماء، حيث قام في هذا الشهر العظيم بجريمة الانتحار بين يدي مساعد وزير الداخلية صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن نايف بن عبدالعزيز -وقد حماه الله ونجاه من كل مكروه فله الحمد-.
جاء متقمصاً لباس التائبين الكاذبين، يطلب تسليم نفسه في دار الأمير وقد أمنه وأحسن إليه فقابل الإساءة بالإحسان، والمعروف بالنكران، وصنيعه هذا يذكرنا بقول الله تعالى عن أهل الكتاب: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ، رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ، وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}آل عمران (54،52). فهذه الآيات الكريمات تكشف لنا مكر الماكرين الذين يدعون الاستقامة والتوبة والإنابة على سبيل المكر والخديعة والخيانة.
وشاء الله تعالى أن يبوء بمكره هو خاصة؛ لقوله تعالى: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ}
(43) سورة فاطر. ويتناثر جسده في جهات شتّى
ويسلمُ من حوله؛ مصداقاً لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (23) سورة يونس.
جاء إلى منزله الأمير طالباً تسليم نفسه، والعربُ تعد خيانة الرجل في بيته من أعظم المعايب وأشد المثالب، فكيف بمن يزعم أنه عربي مسلم؟!.. إن هذا الرجل وأمثاله لما كفّروا الناس وسلكوا مسلك الخوارج (المعاصر) فجَّروا أنفسهم ليصيبوا من حولهم من الأبرياء والمسلمين فسلمهم الله تعالى، وجعل البلاء نازلاً بمصدره واقفاً على أهله {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (37) سورة ق.
إن هؤلاء الخوارج المعاصرين أشد جرماً من السابقين، فهؤلاء اتخذوا الغدر وسيلة لقتل المسلمين وتدميرهم بعد أن حكموا بكفرهم بمجرد الذنوب والمعاصي، بل يعمدون إلى الأخطاء الصغيرة التي لا يسلم منها البشر ويجعلونها من الموبقات!.. أما الخوارج المتقدمون فهم ينصبون السيف علناً -وكلا المذهبين خارجٌ عن سبيل المؤمنين- ولكن المذهب الأول أخبث بلا شك.
وقد خالفوا إجماع المسلمين في مسائل علمها الصغار بالضرورة وهم عنها راغبون، فهذا القاضي عياض ينقل في (شرح مسلم) أنهم (يوجبون على الحائض قضاء الصلاة الفائتة في زمن الحيض وهو خلاف إجماع المسلمين!). وذكر أنهم يقطعون يد السارق من المنكب وإن لم يبلغ ما سرقه نصاباً!.. وشددوا على المسلمين غاية التشديد وكفروهم بالكبائر وهو خلاف منهج أهل السنة والجماعة الذين لا يزالون ظاهرين على الحق!.
وقال: (أجمع العلماء على أن الخوارج وأشباههم من أهل البدع والبغي متى خرجوا على الإمام وخالفوا رأي الجماعة وشقوا العصا وجب قتالهم بعد إنذارهم).
وقد أوضح معالي الشيخ أ. د. سليمان بن عبدالله أبا الخيل مدير جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ضلالهم وكشف زيفهم في بيانه فقال -حفظه الله-: (من كان يتصور أن رواسب الفكر المتطرف وحماقات أصحابه وتصرفات منظريه تتداعى وتتطور حتى تبلغ بهم الجرأة والشرور إلى استهداف المجتمع برمته، ومن خلال استهداف ولاة الأمر، فماذا بقي؟ وماذا ينتظر من قوم تجاسروا على حرمة الزمان، وروحانية الوقت، وانتهكوا مواسم المغفرة والرحمة، ليفادي أحدهم بنفسه، ويلقى الله عزَّ وجلَّ وهو عازم على حصد ما يمكنه من أرواح المسلمين، لكن العجب يزول إذا علمنا خلفية هذا الفكر وخطورة آثاره على معتنقيه، حتى لتصل الحال ببعضهم إلى تكفير والديه وأسرته ومجتمعه، ولسان منطقه يقول: من لم يكن معي فهو ضدي، من ثم لا يتورع ولا يهاب أن يوجه أيّ سلاح ولو كان فيه حتفه، وينتحر زاعماً أنه شهيد في سبيل الله ألا ساء ما يعملون).
كما أشار معاليه إلى أن هذه الحادثة ترسم تطوراً خطيراً، وامتداداً عميقاً للفكر، وتحولاً إلى درجة لا يمكن تمريرها، أو التساهل بها مهما كان المبرر، ويجب علينا أن ندرك امتداد هذا الخطر الفكري ونستقري تاريخ أمتنا بدءاً من الصدر الأول من عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، حينما ظهر ذو الخويصرة التميمي، وواجه الرسول صلى الله عليه وسلم بما واجه، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ذا الخويصرة ليس فرداً انتهى، وإنما هي ظاهرة متكررة، تخرج في كل عصر، فقد يقيض الله له من يكبت صورته، ويحد من جذوته لكنه يعاود الظهور بحسب البيئات، ولذا لا بد أن ندرك أنه لا يعالج بالاستسلام له، والتوقف عن مواجهته، بل الواجب مواجهته بحزم وحنكة، وبقوة الحق التي تدحره بإذن الله عزّ وجلّ.
ثم قال: فالواجب الذي تمليه علينا عقيدتنا، وتوجبه مسؤوليتنا أمام الله تجاه ديننا ووطننا يجب ألا يُقصر على فئة دون فئة، أو فرد دون آخر، بل المتعين على الجميع أن يدركوا عظم الخطر، وأن سفينة المجتمع لا بد من حمايتها من الغرق، وذلك بمواجهة هؤلاء المجرمين المنحرفين من الجميع، وخصوصاً المؤسسات التعليمية والتربوية، والدعوية، والإعلامية، فلم يعد الموقف يحتمل تأخيراً أو تبريراً أو تعذيراً، بل الخطر داهم والفتنة عمياء، ولا بد من العمل الجاد المخلص، حتى يضيق الخناق على حملة هذا الفكر ورواد ثقافته الدموية والتكفيرية والتفجيرية، قطع الله دابرهم، وحسم ضررهم.
وليدرك الجميع أننا لسنا بمنأى عن هذا الخطر، ولا ببعيد عن هذا الضرر، لأن هذه الأفكار، وامتداد خطرها توقفنا على أننا أول مستهدف بعد ولاة أمرنا، والشبهة التي يحملها أولئك أن من لم يكفر الكافر فهو كافر، فحصول الشر متوقع من مثل هذه الفئة المنحرفة.
وأضاف معاليه قائلاً: إذا كنا في خطر، ولسنا بمنأى عن هذه الفئة فلا يعني هذا التسوية بين استهدافنا واستهداف ولاة الأمر، حاشا وكلا، بل من الأمر المتقرر، والقاعدة المطردة أن التصرف يعظم وتكبر مفسدته بحسب الآثار والنتائج المترتبة عليه، ولا يخفى على ذي لب وبصيرة أن ولاة الأمر هم صمام أمان المجتمع، وهم أساس قيام المجتمع، وعليهم المعول -بعد الله- في صلاح أحوال البلاد والعباد، ولذا فاستهدافهم والنيل منهم بقول أو فعل أو تصرف إجرامي أشد وأعظم جرماً، وأكبر فساداً؛ لأن باستهدافهم تحصل الفوضى والفساد، وبالنيل منهم تهدم أصول ومعالم شرعية، وهذه الجزئية لبيان حتمية المواجهة، ووجوب التصدي لهذا الفكر ما دام أنه بلغ هذا المدى الخطير.
ونوّه معاليه بأن هذا العمل وقع لأمير فاضل، وقائد شهم، كان له دور كبير بتوجيه من ولاة أمرنا وعلى رأسهم خادم الحرمين الشريفين، وسمو ولي عهده الأمين، وسمو النائب الثاني - حفظهم الله- في رعاية هذه الفئة واحتواء ضررهم بالحنكة والحكمة والسداد، وبيان الحق بالطرق المعتبرة وتوفير كادر يقوم على المناصحة وتأهيل هذا الفئة.. وما دخول هذا الشخص -الذي جعله الله بما يستحق- واستقبال صاحب السمو الملكي له إلا أكبر دليل على ما يبذله لمعالجة هذا الفكر أمنياً وشرعياً ونفسياً واجتماعياً، ولكن هذا التصرف الأرعن والعمل الجبان دليل على أن أصحاب هذا الفكر لا أمان لهم، ولا يفيد معهم الإحسان.
فالواجب بعد هذا الإجرام المتكرر أن نتأمل واقعنا، ونتدبر أمرنا، وأن ندرك أن هذه الأفكار تتحول إلى أعمال تتسم بالتخطيط وتتم بتضافر جهود شيطانية، وقوى شريرة اجتمعت على أمن هذه البلاد ومقدراتها ومكتسباتها، وأن الحزم كل الحزم أن يتحمل كل منا مسؤوليته، وأن ينطلق في حكمه وتصرفاته مما يوجبه عليه دينا وأمانته ومسؤوليته فنواجه هذه التحديات، ولا يقف دورنا عند مجرد الاستنكار والتأثر السريع، بل لا بد من عمل مخلص، وجهد دائب، ومتابعة دقيقة، ومواجهة تقوم على النصح لله ولرسوله، ولأئمة المسلمين، والثقة في نصرة الله وتأييده وحفظه.
هنا انتهى بيان معاليه، وبه ينتهى المقال؛ لأنه وفَّى الموضوع حقه، وأوصى بما لا مزيد عليه - حفظه الله-.
فعلينا أن نتعاون معاً ونكون يداً واحدة -كما نبّه معالي الشيخ- ضد هذا العدو الغاشم، والخائن الملثم، وهو من بني جلدتنا، ويتكلم بلساننا كما في الحديث الشريف.. والله المستعان.
جبران بن سلمان سحَّاري