يستثمر الدعاة والخطباء والوعاظ إقبال المسلمين على المساجد في شهر رمضان، فينشطون في إلقاء الكلمات والمحاضرات الهادفة إلى إصلاح المدعوين وتقوية إيمانهم، واستثمار رقة قلوبهم من أثر الصيام والقيام في هدايتهم لطريق الاستقامة.
وقد اهتم بعض العلماء وطلاب العلم المتخصصون في دراسات السنة النبوية بإصدار جملة من الكتب والبحوث والفتاوى التي حملت تصحيحات شرعية بشأن بعض الأحاديث الموضوعة التي كان يرددها الوعاظ في شهر رمضان، إلا أن المفاهيم والتصورات العامة الخاطئة التي تتحكم في خطاب الدعاة الرمضانيين والمبثوثة في معظم الكتب الموسمية المتعلقة برمضان لم تنل نفس القدر من المراجعة والتمحيص- حسب اطلاعي -.
وللأسف أن بعض الأصول والمنطلقات الفكرية والشرعية لفئة من هذه الدعاة، ترتكز على تصورات غير سليمة - في رأيي- وتستخدم بعض الأساليب التي تحتاج للنظر والمراجعة باعتبار أن بعضها مخالف لأصول الشريعة، وبعضها مناف للذوق العام وبعضها فيه تقريع لا يليق بمكانة الزمان الفاضل ولا يراعي خصوصية المكان الطاهر في بيوت الله.
فبعض الدعاة (الرمضانيين) مثلاً لديهم تصور (مثالي) لمفهوم التوبة إذ إنهم مسكونون بهاجس تحقيق الانقلاب الكامل في حياة الفرد المسلم في شهر رمضان، إذ يتمنون أن يهدي الله بهم رجلاً واحدا فيصبح (على شاكلتهم) فكرا وسلوكا وتدينا وهم بالتالي يتبنون خطابا وعظيا صارما يهدف إلى زيادة أعداد التائبين من الكبائر والصغائر والبدع والمشتبهات.
وهذا السعي مشكور مقبول في بعض الحالات وفي بعض الأوقات غير أنه إذا صار ديدنا عاما للداعية فإنه يتعبه لأنه اتخذ له هدفا صعبا نادر الحدوث.. بينما لو تعددت أهداف الداعية وتوسعت نظرته لمفهوم التوبة، وصار أكثر واقعية في رسم إستراتيجيته الدعوية من خلال التزامه بفقه الأولويات حسب التصور الشرعي مستعينا بإيمانه بسنة التدرج المتحكمة في تحولات الإنسان الفكرية والسلوكية لأضحى خطابه الدعوي أكثر تأصيلاً وأعم نفعاً..
ولو فقه بعض (الدعاة الرمضانيين) دلالات النصوص الشرعية من الكتاب والسنة التي توضح فطرة الله لعباده على الوقوع في الخطأ والتوبة منه ثم الوقوع فيه ثم التوبة منه حتى يتوفاه الله.. وتشربوا معاني هذه الأدلة وتلقوها من أهل العلم والتقى لكانوا أرأف بالمدعوين وألطف ولركزوا جهدهم في ربط المسلم بخالقه وتحبيبه لربه وإرشاده بكل رفق إلى طريق الرشاد!
كما أن بعض دعاتنا يفتقدون لمهارات الأسلوب الملائم في الدعوة والإرشاد، فهم لضعف تأهيلهم العلمي، وقلة اطلاعهم في علوم التفسير، وضالة ثقافتهم التاريخية، ومحدودية اطلاعهم على الكتب والإصدارات الشرعية الحديثة (أسلوبا ومضمونا).. بسبب ذلك كله ترى هؤلاء الدعاة ينهالون على المصلين الصائمين الخاشعين المتصدقين بعبارات التأنيب والتقريع متذرعين بلغة الأمر والنهي المباشر (وهي الأضعف في وسائل التأثير اللغوي والأسهل لكل متحدث!!) ومتوسلين للوصول إلى غايتهم من خلال وصف تصورهم - الشخصي- للمخالفات الشرعية - وفق رؤيتهم- التي يقع فيها بعض المصلين رجالا ونساء..وكم تمنيت أن يخصص (الدعاة الرمضانيون) ضمن نشاطهم الدعوي المحموم كلمة كاملة كلها ثناء على بواعث الخير ونوازع الإيمان التي قادت المصلين والمصليات للمساجد، ويمطرون فيها المدعوين بالأدلة والأحاديث التي تبرز ما ينتظر أمثالهم من نعيم مقيم في الآخرة، ويشكروا باسم العلماء والدعاة الأئمة هذه الحشود الخيرة التي تركت الدنيا وأقبلت على رياض الجنة، لا أن يحقروهم ويهاجموهم ويعددوا مثالبهم وربما اسمعوهم ما لا يحسن ومما لا يليق من القول!
ومن اللافت للنظر أن بعض الدعاة (الرمضانيين) يرددون دون وعي بعض المقولات والتصورات منذ عشرات السنين دون أن يخضعوها للنقد والمراجعة..
ومن ذلك على سبيل المثال اتخاذهم لمواقف متشددة تجاه كل أشكال التخفف من العمل والمشقة في شهر رمضان بحجة أن رمضان هو شهر الجهاد والعمل والكفاح استنادا لوقائع وبعض (الدعاة الرمضانيين) عندهم خلل في فهم واستيعاب المعنى الشرعي الصحيح لمفهوم الصيام، فخطابهم الدعوي يزهد ويقلل من شأن القدر الشرعي الواجب على الصائم شرعا وفقها (وهو الامتناع عن الطعام والشراب والشهوة من طلوع الفجر إلى غروب الشمس) مع أن نصوص الشريعة حافلة بربط الأجر والثواب العظيم على هذا الصوم لما فيه من عنت ومشقة ظاهرة لكل ذي عينين.
بينما تجد الخطاب الدعوي في خضم سعيه لترهيب الناس من الوقوع في (صغيرة من الصغائر) يعلي ويبالغ في مدح الانعكاسات المستحب ظهورها على بدن الصائم وجوارحه ويكاد يحصر معنى الصيام الشرعي فيها مستخدما نبرة تهمش من تعب الصائم المسلم، وتهون من شأن (الركن الرابع من أركان الإسلام).
فكم سمعنا من بعضهم مقولة (ما جدوى صيام المسلم وهو ينظر لكذا أو يسمع كذا أو يقول كذا) ثم يورد الداعية المتحدث أمورا من صغائر الذنوب التي من حكمة الله ورحمته بعباده أن شرع لهم الصلاة والصيام والعمرة لتكفرها وتغسل المسلم من أدرانها كما صحت بذلك الأخبار عنه عليه الصلاة والسلام... وملاحظتي هنا على الفئة التي تهمش القدر المشروع وتزدريه (بلسان حالها) على حساب الدعوة للتمسك ببعض الفضائل أو ترك بعض الرذائل، أما من يتوازن من الدعاة في خطابه وينزل كل مسألة قدرها فلا خلاف بيننا وبينه في هذه الجزئية وبخاصة أن المتأمل في توجيهات كبار علمائنا في أحكام الصيام يلحظ حرصهم على التفريق بين القدر الواجب شرعا وبين المعاني المستحبة تبعا واستحباباً.
تاريخية تصادف حدوثها في شهر رمضان، هو استدلال غير صائب - في رأيي- لأن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء والقادة المسلمين من بعده (وصولا للرئيس المصري الراحل أنور السادات في حرب أكتوبر) لم يوقتوا لغزواتهم في رمضان عمداً وإنما الظرف العسكري والسياسي هو الذي يحتم وقوع المعركة في هذا الشهر أو ذاك كما يدرك ذلك أي مطلع على كتب السير والتاريخ..
ثم يتبنى هؤلاء الدعاة بناء على تصورهم الخاطئ خطابا يصدمون فيه إحساس الصائم بالجهد والتعب والعنت، ويقسون فيه على الموظفين والعمال الذي يضعف عطاؤهم في أعمالهم بسبب الصوم، ويتهكمون منهم ويطالبونهم بالجد والكفاح (فرمضان شهر الكفاح في تاريخ المسلمين)!!
إن استقصاء الخلل الفكري والشرعي للخطاب الدعوي عموماً - والرمضاني خصوصا- هو جهد كبير مناط بأهل الاختصاص من الأفراد والهيئات والكليات المتخصصة، وما أردت من كتابة هذا الموضوع إلا دعوة المختصين من العلماء وقادة الفكر الإسلامي إلى إخضاع الخطاب الدعوي الرمضاني ومصادره المكتوبة والمتداولة إلى مزيد من التدقيق والمراجعة سعياً للوصول به إلى درجة من العمق الشرعي والتأصيل العلمي ومراعاة أحوال المدعوين والاستجابة لمتغيرات العصر، ليكون بإذن الله أكثر نفعا وأعظم أثرا بإذن الله تعالى.
mhoshan2000@hotmail.com