Al Jazirah NewsPaper Tuesday  15/09/2009 G Issue 13501
الثلاثاء 25 رمضان 1430   العدد  13501
مع الله: معية التأمل والاستعلام والعبادة..! (2-2)
د. حسن بن فهد الهويمل

 

والمعية التي أرادها المؤلف لم تكن على غرار معيات سبقت، لا فيما يتعلق بمصطلح (المعية) عند علماء الكلام، ولا فيما يتعلق بمسميات كتب راجت لعلماء ومفكرين ودعاة، إذ هناك كتاب (مع الله) للمفكر والداعية (محمد الغزالي) .....

رحمه الله وهو في مجمله دراسات في الدعوة والدعاة، وكتابان علميان (مع الله في السماء) و (ومع الله في الأرض) للعالم الأديب الدكتور (أحمد زكي) الذي يحمل شهادتي دكتوراه في العلوم والفلسفة، وكتاباه مجموعة دراسات في متعلقات الفلك والأرض والفيزياء والكيمياء وسائر المخلوقات، ولكن منطلقاته إيمانية أراد منها تجلية الوحدة الشاملة التي تنتظم الكون لتدل على وحدة الخالق جل وعلا، وبحوث الكتابين بمجملها بحوث علمية بحتة، ولكنها جاءت بأسلوب أدبي مشوِّق، ولست أدري: هل هي مجموعة افتتاحيات مجلة (العربي) التي كان يرأس تحريرها زهاء عشر سنوات أم هي دراسات مستقلة، وهو في بحوثه العلمية الدقيقة في عالم الحشرات والحيوانات يلتقي مع هم (عباس محمود العقاد) الذي لا يملك تخصصا، فكان (زكي) أدق وأعمق علمياً من (العقاد) والاثنان تجلت على أيديهما حقائق علمية تدعو إلى الإيمان بالخالق وإجهاض نظرية الصدفة أو المادة، وهي نظريات استفحلت مع المد الشيوعي الذي ظل وضره قائماً وأثره باقياً، وفي مكتبتي حقول معرفية لما تزل تطلب المزيد، وإن كانت ضاربة في عمق عوالم الغيب المحفوفة بالمخاطر، فحقل (الله) و (الإنسان) و (الشيطان) و (الملائكة) و (الجن) من الحقول الغارقة في الفلسفة والوهم، ومع ذلك، لا أنفك من استكمال ما ينقصها لأنها من عالم الغيب، وهو مرتع خصب تجد فيه العقول أمداءً واسعة ورياضة فكرية محفوفة بالمخاطر، ولربما كان أول كتاب اقتنيته ولم أفهمه كتاب (الله) ل (عباس محمود العقاد) رحمه الله، وأذكر أن لي تعليقات حادة كلما انبهمت على العبارات وعميت على المقاصد، والعقاد من جبابرة الفكر الحديث لا يسبر أغواره إلا أولو المعارف العميقة.

والمعيات التي اختارها أكثر من مؤلف معيات تأمل واستعلام، ويقيني أن (أحمد زكي) بإمكانياته العلمية والفلسفية قد بزَّ كل من طرق مثل هذا الموضوع، والخط الذي سلكه الشيخ (سلمان العودة) خط دعوي تربوي وإن جنح إلى تقصي دلالات الأسماء وتعددها، وكان بودي لو انطلق من علم الاشتقاق وأصول الدلالات كما هي عند (ابن فارس)، ولقد كانت له المساحات ذكية حيث اتكأ على شيء من معطيات اللغة واحتمالاتها الوضعية والسياقية والمجازية، ولأنه سلفي مستنير، فقد وقف من التأويل والتفويض موقفاً حذراً، فلم يندفع ولم يحجم، ولكنه راوح بين الاتجاهات، ومصطلحا (التأويل) (التفريض) أوغل فيهما من أوغل وتحاماهما من تحامى، ولكنهما يظلان قائمين عند كل الملل والنحل الكلامية.

وليست الإشكالية فيهما ولكنها في مدى الأخذ بهما، ومثلهما مصطلح (المجاز) والموقف منه، وبخاصة عند علماء التفسير وأصوله، فالمجاز قائم وهو من خصوصيات اللغة ولكن تطبيقه مجال الأخذ والرد. ولربما أعود لأكتب عن (نظرية المجاز في القرآن الكريم) والحد المقبول فيه، فالاختلاف حوله لما يزل قائماً وقابلاً لمزيد من الإضافة. وإذ يكون لكل عالم أو مفكر همه الذي يساوره ويريد أن يحمله موضوعه، فقد تكون للكتاب نكهة خاصة ترتبط بالمؤلف وأجوائه الفكرية وهكذا كل مفكر يحمل هماً سياسياً أو فكرياً يتوسل بالتاريخ أو بالحديث أو بالتفسير لتمرير رؤيته، فالذين كتبوا مثلا عن (السيرة النبوية) ك (الغزالي) و (البوطي) و (هيكل) و (الشرقاوي) و (خليل عبدالكريم) الماركسي الهالك و (أبو شهبه) و(سعيد حوى) وعشرات آخرين تفاوتت مذاهبهم كل أولئك استغلوا الأحداث والمواقف ووجهوها لتعزيز رؤيتهم للحياة والكون والإنسان، وكذلك الذين تحدثوا عن الذات الإلهية مارسوا ذات المناهج وأبرزوا مقاصدهم ومحققات انتماءاتهم.

ولقد يكون المفكر متوازناً بحيث لا يميل كل الميل فيدع القضايا الأخرى كالمعلقة، لقد كتب (سعيد حوى) عن (الله) وكتب (العقاد) والبون شاسع بين الاثنين إذ الرؤية (الأيديولوجية) هي التي تحكم المفكر، ومع أن التوظيف قد يكون مخلاً بالمصداقية إلا أن البعض من الذكاء بحيث لا ينجرف فيخل بالأمانة العلمية، وكتاب العقاد يبحث في نشأة العقيدة.

وبعض المتابعين تغيب عنه تأثير الأنساق الثقافية والسياقات الفكرية التي تفرض رؤية وقتية مناسبة للمرحلة المعاشة، ومن ثم يكتفي بمؤلف واحد؛ ظناً منه أن الأول لم يترك للآخر شيئاً، وتلك رؤية لم تستحضر تأثير المشارب الثقافية، والحكيم يقول لمن معه: (تحدث حتى أراك) فالكتاب يكشف المؤلف قبل أن يكشف عن نفسه، ومن ثم، فإن كل كتاب لا يخلو من فائدة أو فوائد ينفرد بها.

وهذا الإهداء القيم الذي أمتعنا بروحانياته لا يستقل بالمشهد، بل يواكبه في هذا الطريق الميسور عدد من العلماء، وإن شدتهم مذاهبهم الأشعرية أو الاعتزالية أو الصوفية أو الفلسفية أو السلفية، حتى لقد حاولت بعض الجامعات ذات الاختصاص تحرير القواعد والأصول المحققة لتوحيد الأسماء والصفات على منهج السلف الصالح المتوقي للتأويل الفاسد أو التفويض السلبي، فكتاب (القواعد الكلية للأسماء والصفات عند السلف) للدكتور (إبراهيم البريكان) تحرير أصولي لمذهب أهل السنة والجماعة في تقرير مقتضى الأسماء والصفات، وهو يتجاوز الدلالة الوضعية للاسم بحيث يضع الضابط لإطلاق الاسم والمراد منه.

ومن أوائل من ألف في الأسماء والصفات وأطال الإمام (أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي المتوفى سنة 458) وهو أشعري معتدل، وقد تقصى موقفه من الإلهيات الدكتور (أحمد الغامدي) في رسالة علمية جيدة، ومن بعد البيهقي جاء (فخر الدين الرازي) المتوفى سنة 606هـ وألف عن الأسماء الحسنى، وهو أشعري يتهم بالتشيع ويجنح إلى التفلسف وإن كانت له آراء جريئة ألحقته بالاعتزال، وقد تقصى آراءه الكلامية والفلسفية (محمد بن صالح الزركان) في كتاب موسع عنه، كما تقصى أقوال العلماء فيه.

ولقد استفاد المؤلف من بعض تلك المناهج غير أن منهجه التربوي الدعوي لم يمكناه من التوغل في تحرير المسائل المتعلقة بالأسماء الحسنى، ومن ثم لم ينصع إلى أحد منهما في النتائج لاختلاف المشارب والمقاصد.

وبعد هذين المؤلفين تتابعت المؤلفات بمناهج أحسبها تراكمية قد لا تضيف جديداً، وإن جنح كل عالم إلى مذهبه أو إلى تخصصه؛ ف(أبو اسحاق الزجاج) على سبيل المثال، أخذه الاهتمام اللغوي الاشتقاقي، فيما جنح (أبو حامد الغزالي) إلى توله المتصوفة، (ولابن القيم) إلمامات واعية، وإن كانت أقواله في الأسماء والصفات مثبوتة في كتبه المنظومة والمنثورة، غير أن بعض المحققين أشار إلى أن له كتاباً بعنوان (شرح أسماء الله الحسنى) وأحسب أن أوسع الكتب المعاصرة كتاب (المنهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى) ل(محمد بن حمد الحمود) في مجلدين، وكتاب (موسوعة الأسماء والصفات) في مجلدين وكتاب (ولله الأسماء الحسنى) في مجلد ضخم للشيخ (عبدالعزيز الجليل) ومن الكتب المغرقة في الفلسفة والتصوف كتاب (تجليات في أسماء الله الحسنى) للدكتور (عبدالمنعم الجفني) وهو عالم موسوعي كتب في الموسوعات الفلسفية والنفسية والصوفية، ومع عمق تناوله إلا أن فيه شطحات فلسفية وصوفية.

ولما تزل قضية الأسماء والصفات مجال بحث ونظم شعري يتجدد، ولكل مذهب موقفه؛ فالجهمية والمعتزلة والكلابية والأشاعرة والماتريدية في صراع متواصل، والذين ورثوا هذا التراث من المفكرين والفلاسفة عمقوا الخلاف وأضافوا شبهات أخرى زادت هذا الحقل غموضاً واستعصاء على الحل، ومن عويص المسائل في هذا القول بأن الاسم عين المسمى أو غيره، وهي مسائل حادثة ضاق (ابن جرير) بها وعدها من الحماقات التي خاض فيها أهل الجهل والغباء، وكل من تناولها على أي منهج فإنه يحيي خصومات ويحرك ركوداً، ولكن لابد مما ليس منه بد.

شكر الله لأخي الكريم، فقد جاء إهداؤه جلاء لصدأ النفوس، ومحركا للشجون وحافزاً على استعراض هذا الحقل المعرفي الذي شغلني عن مثله ما يلتطم في الساحة من فضول تضوى به أجسام المعرفة ويتصوح نبتها، ومزيداً من الإسهامات المثمرة.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد