عندما يبدو الجو السياسي في العالم العربي معتماً وخانقاً ويثير في النفوس لواعج الكآبة، يختار الرئيس الليبي أن يرطب الأجواء بتحليل سياسي يقترب من الطرفة، وآخر هذه التحليلات النجيبة التي ستعرضها ليبيا على الأمم المتحدة نتيجة ترؤسها لدورة الأمم المتحدة لهذا العام هو محو دولة سويسرا عن وجه البسيطة وإلحاق أجزائها بالدول المجاورة لها.
وليس غريباً في العالم العربي شخصنة الموقف السياسي وخلط العام بالخاص والدولي بالفردي على خلفية قضية ابن القذافي (هنيبعل) في أحد الفنادق السويسرية.
سويسرا بطبيعتها الفائقة الجمال، والفتنة التي تنبعث من جبالها وأنهارها، وتوزيعها الديموغرافي الذي يعكس تجليات التعايش والانسجام تحت مظلة الهوية الوطنية الواحدة.
تجربة فريدة تستحق التأمل، فعندما تكون في مدينة زيورخ مثلاً ستشعر بأنك في ألمانيا اللغة الثقافة، الصرامة والانضباط الألماني، مواعيد القطارات التي تحسب الثواني، وشارع (باينهوف) الفاخر المرصوف بالماركات العالمية والبنوك المحتشدة بأموال العالم والحسابات السرية.
لكن على بعد ثلاث ساعات في القطار المتجه جنوباً وعلى ضفاف بحيرة (لوغانو) سنكتشف بأننا أصبحنا في إيطاليا اللغة، الدفء، طراز المباني الإيطالي (التوسكاني)، الأصوات والضحكات العالية، قوائم الطعام المزدانة بالكابتشينو والبيتزا، ودهشة وعينا بأننا ما زلنا فوق الأراضي السويسرية، ولن يتطلب الأمر منا الكثير للاتجاه غرباً والوصول إلى جنيف ذات اللغة والثقافة الفرنسية.
في سويسرا يطوّقنا الفضول وتحاصرنا الأسئلة عن طبيعة الهوية الوطنية والعقد الاجتماعي الذي يجمع السويسريين على الرغم من تحدي الذوبان والاضمحلال في الثقافات العريقة المجاورة؟
ويبزغ سؤال آخر حول بلد صغير بهذه الفتنة والجمال والمقدرات الاقتصادية الفارهة، يعيش بانسجام مع جيرانه دون جيش يحمي حدوده، عندها نستعيد وضع (لبنان أو الكويت) وتتبدى لنا الهوة الحضارية بين تنظيم العلاقات الدولية في الاتحاد الأوربي وبين ما هو على أرض واقع جامعة الدول العربية، (عندما احتلت سوريا لبنان واحتلت العراق الكويت بدعوى عودة الفرع إلى الأصل).
سويسرا ليس على أرضها شجرة (كاكاو) واحدة.. وعلى الرغم من ذلك فشهرة الشوكلاتة السويسرية عالمية، تستورد حبوب الكاكاو من أقاصي الأرض وعبر ذوق فاخر، وأيدٍ مدربة ماهرة تعيد تصنيعها وتوردها لأصقاع المعمورة، تلك اليد المدربة الماهرة نفسها التي صنعت الساعة السويسرية وجعلتها واجهة حضارية للدقة والجودة.
الهوية السويسرية استطاعت أن تتجاوز حواجز اللغة والثقافة، لتنضوي تحت مشروع حضاري كبير لجماعة اختارت أن تتعايش في هذا البلد الصغير الفائق الفتنة في تجربة لا بد أن تُحتذى في تكريس الهوية الوطنية وإلغاء الفروقات والتباينات العرقية، ولعل هذا بالتحديد ما يجب أن يلفت انتباهنا في العالم العربي، عندما تعزز الهوية المشتركة والانتماء الوطني من خلال الانخراط في مشروع حضاري متكامل برؤية وأهداف مشتركة ومنسجمة.
أما اقتراح الرئيس الليبي حول محو سويسرا عن وجه الأرض وتفتيتها وإلحاقها بدول مجاورة فهو بالتأكيد أحد الطرف التي تصلح للمسامرات والمنادمات، تلك الفكاهات التي اعتاد الرئيس الليبي أن يوزعها على العالم من حوله طوال الأربعين عاماً الماضية.