كلما رسخت قدم المرء في العلم اتسع أفقه، واستنارت بصيرته. انتابني هذا الشعور وأنا أستمع إلى فضيلة - الشيخ - سلمان العودة، - قبل أيام - في برنامجه حجر الزاوية، وهو يقول: (لا أعتقد عصمة لاجتهادي ولا لرأيي). فالشيخ يؤكد ....
.....على أنه لا يمتلك الحقيقة المطلقة، ولا يصفه بأنه الأصوب، وبالتالي فهو لا يتعصب لرأيه.
ذكرتني تلك العبارة برحابة الإسلام الذي عرف أنواعاً شتى من التعددية الفقهية والمذهبية، بل إن علماء الإسلام قاطبة ينطلقون من مبدأ: (كل يؤخذ من قوله ويرد)، إذا كان مما يسوغ فيه الخلاف من مسائل الاجتهاد ومطارح الآراء، إلا صاحب هذا القبر - صلى الله عليه وسلم -. ولذا قيل: (خلاف العلماء رحمة)، فالخلاف باق إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولا يجب علينا أن نتأذى به، ولا أن نعجز عن التكيف معه. فكل العلماء أقروا أن اجتهادهم هو محل نظر، يؤخذ منه ويترك، ومن ذلك عبارة - الإمام - الشافعي - رحمه الله - المشهورة: (قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ يحتمل الصواب)، فهو قد يختار في المسألة الفقهية ما هو راجح عنده بالدليل، فإذا اتضح بعد ذلك رجحان دليل مخالفه أخذ برأيه، وهذا من اتباعه للدليل، فلا يحتكر الحقيقة لنفسه بل يعلنها مدوية عن عدم انتصاره للذات، واحترامه الكبير لجميع من خالفوه، وهذا غاية في الرقي والتحضر، ولقد كان - رحمه الله - يقول: (ما ناظرت أحداً إلا وددت أن الله تعالى أجرى الحق على لسانه). وكل من الأئمة الأربعة ورد عنهم أنهم قالوا: (إذا خالف قولي الحديث فاضربوا به عرض الحائط)، فالخلاف في الأمة سائغ ومحمود في الفروع.
وإذا كان الاجتهاد هو السبيل لمعرفة حكم الله وأوامره، واستنباط الأحكام الشرعية الفرعية من مصادرها المقررة للانضباط بها، ولمعرفة أحكام الحياة كلها، والنظر في القضايا المستجدة، فإن كل العلماء أقروا أن اجتهادهم محل نظر يؤخذ منه ويترك، فمن أصاب فله أجران، ومن أخطأ فله أجر واحد. وقد روت لنا السنة قصة الرجلين في سفر، فحضرت الصلاة وليس معهما ماء، فتيمما صعيداً طيبا، ثم وجدا الماء في الوقت، فأعاد أحدهما الصلاة والوضوء، ولم يعد الآخر، فأتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرا له ذلك، فقال للذي لم يعد: أصبت السنة و أجزأتك الصلاة، وقال للذي توضأ وأعاد: لك الأجر مرتين. فالرسول - صلى الله عليه وسلم - ما عاب على الرجلين اختلافهما في الاجتهاد في المسألة، بل شجعهما عليه من أجل الوصول إلى الصواب، وهذا يدل على حرية الفكر في الإسلام، وتشجيعه على الاجتهاد.
أكتب ما تقدم لأقارنه بما رأيته في إحدى القنوات الفضائية من حوار - قبل أيام - كان أحد ضيوفه ينتمي إلى السلك القضائي، فأبى إلا أن يسحب عباءته القضائية من قاعة المحكمة إلى داخل الاستديو، معبراً عن فرط ثقته بنفسه، وشعوره بالصوابية المطلقة، وأن الخطأ أبعد عنه من زحل، فتراه يرفع صوته تارة، وتارة يقاطع ضيوفه، وأخرى يمارس دور المقدم بطرح أسئلة استفزازية على ضيوف البرنامج. مع أن الحوار في نهاية المطاف هو السبيل لفهم الآخر، فالإيضاح يسبق الفهم، والفهم يسبق الإدراك، والإدراك يتبعه التغيير، ولا يجب أن ننتهي في كل أمر إلى نهاية واحدة.
إن التعددية سنة الحياة، ومن شروط البقاء: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين). فالاختلاف جبلة بشرية وهو الأصل، لأنه يؤسس للاجتهاد في الرأي دون العصمة لأحد، وهو مصدر ثراء ومنبع سرور أي ثقافة. وليكن منطقنا عند البدء في الحوار هو البحث عن الحق لاتباعه من خلال البحث عن المساحة المشتركة مع الآخر، قبل القفز إلى المختلف فيه واستعجال الخلاف، فالحق ضالة المؤمن، أنى وجده فهو أحق به، إذ العبرة بالدليل العاضد والقرائن المؤيدة للرأي، وأكثر الناس تعصباً لآرائهم هم أقلهم حكمة وتعقلا، ولذا تراهم يحجبون عن قبول النقد، أو القبول بمبدأ الحوار.
drsasq@gmail.com