Al Jazirah NewsPaper Monday  07/09/2009 G Issue 13493
الأثنين 17 رمضان 1430   العدد  13493

يوم انتصار الحق على الباطل
د. عبدالله الصالح العثيمين

 

من نعم الله الجليلة على أمتنا أن هداها لدين الإسلام القيم، وجعل لها مواسم خير قطوف ثمارها دانية يانعة. وهي الآن تعيش أحد هذه المواسم؛ فهذا الشهر هو شهر رمضان المبارك، الذي خصه الله بأن جعل صومه له - سبحانه - عملاً يجزي به، كما جعل ثلثه الأول رحمة، وثلثه الأوسط مغفرة، وثلثه الأخير عتقاً من النار.

وإضافة إلى تلك الخصوصية لشهر رمضان - وما أعظمها! - فإن هذا الشهر شهر انتصارات لأمتنا المسلمة. وكان أكبر انتصار لها في هذا الشهر المبارك ذلك الذي تحقق في معركة بدر الكبرى، التي سماها الله - جل ثناؤه - يوم الفرقان؛ إذ نصر بها الفئة القليلة من عباده المؤمنين على الفئة الكثيرة من جحافل الكفر والطغيان؛ وذلك في السابع عشر من رمضان من السنة الثانية للهجرة النبوية.

وكنت قد كتبت مقالة عن تلك المعركة العظيمة قبل ثماني سنوات بدأتها بما معناه: إن أمتنا تعيش الآن وسط أجواء مكفهرة؛ إذ تحيط بها هوج العواصف من أعدائها المتكالبين عليها من خارجها، ويهتز كيانها نتيجة تأثر بعض زعمائها ومثقفيها، بأفكار أولئك الأعداء حتى باتوا يرددون ما يقولونه أو يكتبونه دون تمحيص. وإذا كان تداعي الأمم عليها كما تتداعى الأكلة على قصعتها قد حلّ بها - وهو أمير خطير مُروِّع - فإن عوامل هدمها من داخلها قد ازدادت وضوحاً، وهي أشد خطورة وترويعاً.

أما عواصف الأعداء الهوجاء من خارج الأمة فتتضح في تكتلها حول محورها المتمثل في الدولة التي جعلت من نفسها الركن الشديد للكيان الصهيوني الإرهابي. وأما عوامل الهدم الداخلية فيكشفها ما تنشره أقلام، أو تنطق به أفواه، من قدح بثوابت الأمة ومدح لقيم أعدائها.

ماذا يرى المرء الآن بعد مرور ثماني سنوات على كتابة تلك المقالة؟

إنه لن يرى إلا زيادة تدهور يدمي قلوب المخلصين. فقضية فلسطين - وهي أم قضايا أمتنا - أصبحت في مهب الريح؛ إذ تفاقمت النزاعات والخلافات بين قادتها، وتسارعت تنازلات البعض منهم؛ مؤيدين بالقوى التي باتت تقف موقفاً عدائياً من كل عمل مقاوم للاحتلال. وإن وجد من يقول: إن تلك القضية تباع الآن بالمزاد العلني بعد أن كانت تباع سراً، فإن كثيراً من المتابعين لسير الأمور سيقولون: إنه صادق فيما يقول. وكنت قد بدأت بكتابة أبيات حول الموضوع مطلعها:

وطن يباع فمن يكون الشاري

إن لم يكن من مالكي الدولار؟

لكني أدركت أني صائم، فعدلت عن إتمام كتابة تلك الأبيات.

وفي العراق حقق المتصهينون ما أراده المخططون منهم من القضاء على القوة التي كانوا يرون أنها الخطر الاستراتيجي الحقيقي على الكيان الصهيوني، وهُدِّمت البنية الأساسية هناك، ونهب ما نهب من تراث وآثار. على أن الكارثة العظمى والطامة الكبرى، هي نجاح الأعداء في تأجيج الفتنة الطائفية والعرقية. وكل من يتأمل سير الأمور يدرك آثار ذلك التأجيح الفادحة. ومع أن الشعب الأمريكي دفع ثمناً باهظاً، ثروة مالية وسمعة سيئة بين الشعوب، فإن المخططين من المتصهينين أدركوا ما أرادوا بنجاح. ولقد كتبت عدة قصائد عن كارثة العراق، وكان ختام إحداها:

سُلِّمتْ بغداد في طبق

- لعلوج الحقد - من ذهبِ

وتلظَّى في مرابعها

مستطير الرعب من لهب

وجنت صهيون ما حلمت

فيه من مستعذب الأرب

ولو لم يكن من مآسي أمتنا وكوارثها إلا ما حدث ويحدث في كل من فلسطين والعراق لكان كافياً لرؤية واقعها المؤلم ومستقبلها المظلم. على أن جذوة من إيمان تحث على أن يستجيب المؤمن لأمر الله بعدم القنوط من روحه، جل شأنه.

وإن مما يخفف عن النفس ما يثقلها من عبء الكوارث الحاضرة العودة بالذاكرة إلى رحاب تاريخ يندى بعبق المجد والانتصار. ومن هنا جاء الحديث هذا اليوم عن معركة بدر الكبرى، التي انتصر فيها الحق على الباطل.

كان المؤمنون قد عانوا من ظلم قريش ما عانوا؛ تعذيباً، ومصادرة أموال، وصداً عن سبيل الله. وكان من عدل الله الحكيم، الذي جعل نصر المؤمنين حقاً عليه، أن أذن لهم برد ذلك الظلم، ووعدهم بعونهم على أعدائهم. وما كان لوعد وعده الله إلا أن يتحقق.

وفي مثل هذا اليوم من أيام السنة الثانية للهجرة وصل إلى المدينة خبر مسير قافلة تجارية كبيرة لقريش بقيادة أبي سفيان متجهة من الشام إلى مكة. فندب الرسول، -صلى الله عليه وسلم- أصحابه قائلاً: (هذه عير قريش فيها أموالهم، فأخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها). وانطلق - عليه أفضل الصلاة والسلام - من المدينة بمن أمكنه الخروج معه منهم. وكان عددهم لا يتجاوز ثلاث مائة وبضعة عشر رجلا. ولم يكن معهم إلا فرسان: فرس للزبير بن العوام وفرس للمقداد ابن الأسود، وسبعون بعيراً يعتقبونها. وكان أبو لبابة وعلي بن أبي طالب زميلي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وعندما جاء دوره في المشي قالا له: نحن نمشي عنك. فقال لهما: ما أنتما بأقوى مني، ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما. وهكذا تتجلى عظمة القيادة، وتتضح روعة التضحية. وأنى للضعف أن يتسلل إلى نفوس قوم يتحلون بهذه الروعة وتلك العظمة؟

كان هدف النبي، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه عند انطلاقهم من المدينة اعتراض قافلة قريش. ولو كانوا قد علموا أنهم مقبلون على مواجهة حربية لا تخذوا أهبتهم كاملة، ولما كان لمسلم قادر على القتال إلا أن يسارع إلى الخروج معهم. لكن أبا سفيان علم بتوجههم إليه، فأرسل إلى مكة يستنفر أهلها لينقذوا أموالهم. ولم يكتف بذلك - وهو النابه المجرب - بل غير وجهة القافلة نحو ساحل البحر. ولم تقع في أيدي أولئك الذين خرجوا لاعتراضها. على أن قريشاً خرجت من مكة بقضها وقضيضها بطرة مختالة بجيش يزيد على تسع مئة رجل، ومعهم سبع مئة بعير ومئة فرس. وحين علم قادتهم بسلامة القافلة رجع عدد قليل من حكمائهم إلى مكة. لكن عنجهية البطر دفعت أبا جهل إلى أن يقول: (والله لا نرجع حتى نقدم بدراً، فنقيم بها، نطعم من حضرنا، ونسقي الخمر، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب فلا تزال تهابنا أبداً وتخافناً). فأخذت الكثيرين من أولئك القادة العزة بالإثم وركنوا إلى صوت البطر.

وفي ظل تلك الظروف استشار قائد الغر الميامين، صلى الله عليه وسلم، أصحابه، وبخاصة أن غالبيتهم من الأنصار، الذين كانت مبايعتهم له أن يحموه ما دام في بلدتهم. فقال أبوبكر، وأحسن. وقال عمر، وأحسن. ثم قام المقداد بن عمرو، فقال:

( يا رسول الله، امض بنا لما أراك الله، فنحن معك.. فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك دونه حتى تبلغه). فقال له الرسول -صلى الله عليه وسلم-، خيراً ودعا له. ثم قال: (أشيروا عليَّ أيها الناس). فعلمت الأنصار أنه يعنيهم، وجاء صوت الإيمان متدفقاً على لسان سعد بن معاذ، رضي الله عنه: (كأنك تعرِّض بنا يا رسول الله؟ وإني لأقول عن الأنصار، وأجيب عنهم: فامض بنا حيث شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت. وما أخذت كان أحب إلينا مما تركت، فوالله لئن سرت بنا حتى تبلغ البرك من غمدان لنسيرنّ معك، ووالله لئن استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك). وهنا أشرق وجه النبي، صلى الله عليه وسلم، بما سمع، وقال: سيروا، فإن الله وعدني إحدى الطائفتين، وإني قدر رأيت مصارع القوم.

ولما نزل النبي، صلى الله عليه وسلم، بأصحابه في المنزل، الذي أشار به عليه الحباب بن المنذر، وتراءى الجمعان، قال: (اللهم هذه قريش جاءت بخيلائها وفخرها.. جاءت تحادك وتكذب رسولك. اللهم فنصرك الذي وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة لن تعبد في الأرض بعد). واستنصر المسلمون ربهم، واستغاثوه.

وفي صباح يوم الجمعة السابع عشر من رمضان، نظم الرسول، صلى الله عليه وسلم صفوف المسلمين، ثم غفا وأبوبكر معه يحرسه، وعنده سعد بن معاذ وجماعة من الأنصار على باب العريش، الذي عمل له. ثم خرج يثب في الدرع، ويتلو قول الله تعالى: { سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} وتزاحم الجمعان. وبعد أن تبارز عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة والوليد بن عتبة مع حمزة بن عبدالمطلب وعلي بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث قُتل المشركون الثلاثة: عتبة وشيبة والوليد. ثم حمي الوطيس، وأمد الله رسوله والمؤمنين بنصره، فقتلوا من المشركين سبعين رجلاً، وأسروا سبعين، وفر الباقون منهم منهزمين إلى مكة ذليلين. أما المسلمون فلم يقتل منهم إلا أربعة عشر شهيداً.

ولما انتهت تلك المعركة العظيمة، التي سماها الله يوم الفرقان، قال النبي، صلى الله عليه وسلم: (الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده). ثم صلى على الشهداء، فدفنوا، وبعد ذلك وقف على قتلى قريش، وقال: بئس عشيرة النبي كنتم. كذبتموني وصدقني الناس، وخذلتموني ونصرني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس). ثم أمر بهم، فألقوا في قليب بدر. وارتحل المسلمون إلى المدينة ظافرين فرحين بنصر الله ومعهم الأسرى والغنائم. أما الأسرى: منهم من فدى نفسه، ومنهم من أطلق سراحه دون فداء، ومنهم من كانت فديته تعليم عشرة من أطفال المدينة القراءة والكتابة.

هكذا - إذن - كانت معركة بدر الكبرى.. يوم الفرقان.. يوم انتصار الحق على الباطل. فما أطيب على نفس المؤمن من تذكرها، واستلهام العبر منها؛ وبخاصة وأمتنا تعيش المآسي والكوارث التي تعيشها. وفق الله أمتنا كي ترى الحق حقاً فتتبعه، وترى الباطل باطلاً فتجتنبه.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد