تتوالى التهاني للأمير محمد بن نايف مساعد وزير الداخلية للشؤون الأمنية فرحة بفشل جريمة محاولة اغتياله.. أفراد وجموع هبَّت مشاركة بالتهنئة، ليست لأن المحاولة كانت لقتل مسؤول كبير في الدولة، بل محاولة لقتلنا جميعاً.. المبهج أن الإرهاب لم يفشل في تلك العملية فقط، بل إنه زاد التلاحم الوطني تماسكاً..
وبسبب ضخامة الحدث فقد تنوعت الآراء والتحليلات والمقترحات حول أفضل الطرق القصيرة والبعيدة المدى لمواجهة الإرهاب وتكتيكه الجديد، حتى أن من يستعرض هذا الموضوع قد يتساءل ما الذي يمكن أن يُضاف؟ ورغم أنه قبل قول القائل وقبل كتابة الكاتب، فإن الحدث بذاته هو القول الفصل والكتابة الناصعة.. لأن منهج الحياة يسبق منهج التحليل الفكري.. فالحدث واضح يعبر عن المقابلة بين منطق الحياة أمام خبطات الموت.. نسق البناء أمام فوضى الدمار..
لقد اتفق الجميع بكافة الأطياف الفكرية على الفرحة الغامرة بنجاة الأمير، مع الإدانة المطلقة وغير المشروطة لكل أشكال الإرهاب المادي والمعنوي، واتفقوا على النجاح الكبير الذي تحققه الأجهزة الأمنية، لكنهم اختلفوا في التحليل والآراء والمقترحات في أفضل مواجهة ضد الإرهاب وتكتيكه الجديد: الاغتيالات الفردية.. وهذا اختلاف في وجهات النظر صحي ومفيد لصاحب القرار لكي يأخذ الأكثر نفعاً..
المفارقة أن سماحة الأمير محمد في التعامل مع الإرهابيين أخذها طيف فكري كدلالة لعدم النفع التسامحي معهم؛ فيما أخذها طيف فكري آخر كدلالة تؤكد التأثير القوي لهذا الأسلوب، لأن قادة الإرهاب وجدوا التسامح مؤثراً في كثرة المتراجعين التائبين فأرادوا ضرب أحد رموز هذا التسامح. فنفس السبب أفضى لاستنتاجين متناقضين! وهنا سيقع صانع القرار في مفارقة لا يزيحها سوى الدراسات البحثية المستندة على إحصاءات استقرائية علمية وليس على آراء نظرية..
إذن، تفاوتت وجهات النظر حول ما ينبغي عمله بعد هذه النقلة النوعية للإرهاب.. فمن قائل إن هذا التكتيك الجديد يحتاج تكتيكاً مقابلاً من الناحية الأمنية والسياسية، والتركيز على هذه الجوانب أكثر من غيرها، والتعاطي مع الملف الأمني بطريقة جديدة.. ومن قائل إن ذلك يستدعي مزيداً من المواجهة الفكرية وليس فقط الأمنية، وإنهما (الفكرية والأمنية) ينبغي أن يسيرا جنباً إلى جنب..إلخ.
المفارقة أنه رغم تفاوت وجهات النظر بين الأطياف الفكرية في أسباب ودوافع الإرهاب ومحرضاته، فإن هناك اتفاقاً بين طيفين فكريين اعتدنا أن يتقابلا دائماً.. فبين أغلب الطروحات، اتفق الطرح السلفي مع الطرح الليبرالي بأن المشكلة ما قبل الأمنية هي مشكلة فكرية، تكمن في الغلو الفكري.
ومهما اختلفنا في التحليل والاستنتاج والحل المقترح.. فلا بد أن نبحث في المقدمات عن إجابة جادة حول: ما هي مصادر الإرهاب الروحية قبل المادية، والاجتماعية قبل السياسية؟ ما هي دوافعه ومحفزاته ومثبطاته؟ ما هي البيئة العامة والظروف الحياتية التي يظهر بها أكثر من غيرها؟
ثمة شبه اتفاق أن الإرهاب يستند على فكر متطرف يُشرِّع له أفعاله. فهناك العديد من الأساليب - غير الأمنية - على المدى المتوسط وعلى المدى البعيد تؤثّر في نمو الفكر الإرهابي، لا بد من مناقشتها. لكن هذه المسألة الفكرية نوقشت كثيراً، مقترحة مواجهة الفكر المتطرف بفكر التسامح والحوار واحترام وجهة نظر الآخر، وتطوير المناهج التربوية، وتجديد الخطاب الديني والتفسير الميسر والعصري للنص الديني المقدس..إلخ؛ بينما البيئة العامة الشاملة للمجتمع قلما تناقش، فهناك بيئات تسمح للفكر المتطرف بالنماء وتسمح لفقهاء التطرف بتشريع الإرهاب.. وبيئات تحفز عوامل العنف.. وبيئات تشجع على الإقصاء والفئوية.. إلخ.
فمن أهم الأساليب متوسطة وبعيدة المدى والتي تهيئ ظروفاً حياتية عامة مزدهرة ومضادة للإرهاب، هي إستراتيجية رائد الإصلاح المحلي ورائد الحوار العالمي الملك عبد الله، الذي أنشأ مشاريع إصلاح القضاء والتعليم والجامعات والبلديات، والانفتاح العام والإعلامي؛ وأنشأ المدن الاقتصادية، والمؤسسات الإصلاحية: مكافحة الفقر، مكافحة الفساد، مؤسسات حقوق الإنسان، مؤسسات المجتمع المدني، مركز الحوار الوطني..إلخ، وأقر إصدار العديد من الأنظمة التطويرية والإصلاحية.
كل تلك الإجراءات هي إصلاحات تدعم حالة المجتمع المدني الذي يستند على التداول التنظيمي المؤسسي (مجتمع المؤسسات والقانون) في التعامل مع الاختلافات كقاعدة بين أفراد وفئات المجتمع، والعلاقة بين المواطنين والدولة على أساس قاعدة المواطنة.. وتلك الإصلاحات لها دورها العظيم في تهيئة المناخ المتسامح في التعامل مع الاختلاف، والبيئة المنفتحة على تقبل وجهة نظر الآخر.. وفي نفس الوقت تحجيم وتثبيط محفزات العنف وتجفيف منابع الإرهاب الفكرية والروحية..
لكن السؤال هو إلى أي مدى تمكَّنا (مواطنين ومسؤولين) من كفاءة تطبيق أو تفعيل مشاريع الملك عبد الله؟ هل واصلت طريقها حسب المأمول، أم أنها تعرقلت وتباطأت بواحد أو أكثر من: البيروقراطية المنهكة، عدم استيعاب المسؤولين المطبقين لها، ممانعة بعض الذين يصعب عليهم فهم أو قبول التطور..
وفي كل الأحوال، فإن الإرهاب قضية تشغل بال الرأي العام الدولي ليل نهار، بسبب الرعب التي تبثه عمليات الإرهاب العالمي. ومن المفارقة هنا، أنه رغم كل عمليات الإرهاب العالمي فإن الإحصاءات توضح أن العالم أصبح أفضل أمناً وأكثر سلامة مقارنة بالعقد الماضي، هذا ما تذكره العديد من التقارير الأمنية الدولية، وآخرها ما أكده مدير عام الوكالة الدولية للطاقة الذرية (تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2009). والحديث هنا عن الدول التي لا تعاني من حروب أو احتلال.
فإذا كانت الأرقام لا تخدع، فكيف نفكك هذه المفارقة؟ صحيح أن العالم أصبح أكثر أمناً لكن الشعور بالأمن أصبح أقل مما كان لأن نسبة التهديد زادت، يرافقها الإحساس بالهلع نتيجة وجود أجهزة الأمن في كل زاوية لحمايتنا مما جعل التفكير في الحالة الأمنية هاجساً مزعجاً في كل لحظة. ففي السعودية لم تنجح عملية إرهابية واحدة منذ بضع سنين، رغم كثرتها، لأن أجهزة الأمن كانت لها بالمرصاد. فرغم أن الأمن أفضل من ذي قبل إلا أن التهديد زاد وارتفع معه القلق..
أضف إلى ذلك أن منظر الحوادث الإرهابية المتكرر إعلامياً يجعل من صورها راسخة في أذهاننا، وحسب فكرة بودريار: الأشياء التي لا نراها لا نعتبرها موجودة، فلو عكسنا المقولة وقلنا إن الأشياء التي نكثر من رؤيتها نعتبرها موجودة أكثر مما هي عليه في الواقع، لأننا نفكر بها أكثر مما تستحق.
أخيراً، فإن أول مفارقات موضوعنا هو أنه رغم فرحتنا الغامرة بنجاة الأمير محمد بن نايف، فإن قلقاً عصياً يساورنا لأن استرجاعنا لتفاصيل الحدث ورؤينا لمشاهد ما حصل يشير إلى مقدار الخطر الذي كان سيتعرض له الأمير ومقدار الأذى الذي كان سيتعرض له البلد.. فهل نفرح أم نحذر؟ هما الاثنان معاً تؤمان متناقضان، تجمعهما الطبيعة في مسرح الحياة..
alhebib@yahoo.com