التخمة الرمضانية التي تحيطنا باللون والطعم والرائحة تجعلنا نشعر بأننا مركب ورقي يتعابث به تيار هادر اجتاح المكان وطوق الجهات.
لم يستطع الإرث الصحراوي البسيط القائم على البساطة والتعفف واقتصاد الندرة، أن يقاوم هذا الاكتساح الذي ترصد حتى بنوع التمر الذي نفطر عليه.
حالة التخمة التي تترصد بنا تنسدل عازلا سميكا يحجبنا عن الجذور الروحية لهذا الشهر، حيث إرثنا رشفات بسيطة، صحراء وشجر يتحدى الرمال، البطون الضامرة، هديل يمام، هلال معلق في الأفق تزين كتفه نجمه، شياطين مصفدة، وخفة الكائنات التي تحلق بعيدا عن فخ الجسد.
من يصفد شيطان الاستهلاك في ظل شهر بدأت تتوارى مقاصده.
الميدان الذي يحقق فيه النظام الاستهلاكي شروطه ويصول ويجول فيه هو مضمار الغرائز، حيث يحفز ويترصد بكل ما هو كامن ومختف وبدائي بداخل المستهلك، وكل ما هو متوار وراء طبقات التربية والتهذيب والعفة، ليجعله هدفا مكثفا لقصف متواتر قل أن ينجو منه أحد.
ترتبط الغرائز بإرادة الحياة ومن هنا تستمد قوتها وجموحها، وهي التي يسميها الفيلسوف (نيتشه) بمرجل الطاقة الحيوية الذي يدفع البشرية إلى الأمام من هنا تبدو مقاومتها أو مراوغتها أو تفادي فخاخها تحدي شاهق، جعلته عقيدتنا التحدي البشري الأول و الجهاد الأكبر....
لكنها الاستهلاكية (ابنة الرأسمالية اللعوب) تلوح بلذة الشجرة المحرمة فروعها وأذرعها الطويلة التي تستطيع أن تخترق فيها كل الحواجز التي رفعها الإنسان دون غرائزه، لتسوغها وتبررها, وتطلقها في فضاء المدن على شكل حالة سعار شمولية بحثا عن المتعة.
ولعل مواسم ومواقيت المجتمعات تصبح فرصة طيبة لتوريطها بمناخ أيبقوري متفلت من حدوده، سعار الحواس وبئرها العميقة التي لم ولن تمتلئ لبشر ولو كان له مثل أحد ذهبا.
بعد الركود الاقتصادي الذي ضرب اقتصاد العالم، أعلن الكثير من المحللين الاقتصاديين أن النظام الاستهلاكي الرأسمالي الذي يقوم عليه نادي أغنياء العالم (ال20% المسيطرين على 80% من الاقتصاد العالمي), لا يمكن أن يعمم على جميع شعوب ودول العالم، لأنه نظام جشع مستنفد لمصادر البيئة, ومن الممكن أن يقود العالم إلى كوارث بيئية لا متناهية.... ولكن العالم جميعه منحدر في مسارها دون خرائط أو شارات طرق.
العالم يكابد تخمة الحواس... وأرواح بأجنحة واهنة عاجزة عن التحليق في ملكوت الرحمة والرحمن.