Al Jazirah NewsPaper Sunday  06/09/2009 G Issue 13492
الأحد 16 رمضان 1430   العدد  13492
كثرة المستفتين على الهواء.. لماذا؟
ممدوح بن محمد الحوشان

 

أعتقد أن الأسئلة والمشكلات التي ترد من شرائح المواطنين السعوديين الذين يتصلون هاتفياً على برامج الإفتاء، في رمضان وغيره، تستحق التحليل والدراسة بغرض الوقوف على أبرز ملامح الثقافة الشرعية للفئات المتصلة، وتحديد أهم الدوافع (النفسية والدينية) التي تدفعهم إلى طرح الأسئلة على الهواء مباشرةً،

وصولاً إلى قياس مستوى النجاح لجهود المؤسسات المعنية برفع الجهل ونشر العلم في المدارس والجامعات والجوامع والإعلام الهادف.

ومما يُحمد لجموع المتصلين حرصهم على معرفة أحكام دينهم، واستعدادهم للالتزام بأحكام الشريعة، حتى في القضايا التي قد تتعارض مع مصالحهم الشخصية (كتحريم الاكتتاب في بعض الأسهم)، كما أن في هذه المتابعة العالية للبرامج الإفتائية مؤشراً إيجابياً على استشعار وإيمان الفئات المتصلة بالدور القيادي للعلماء والمفتين في المجتمعات الإسلامية بشكل عام.

اللافت في الأمر أن ثمة اتصالات كثيرة على برامج الإفتاء من شريحة المتعلمين الذين درسوا وتعلموا تعليماً جامعياً، وتلقوا من المعرفة الدينية قدراً كبيراً في المساجد والمنازل والبرامج الدينية، وأتيحت لهم فرصة الاطلاع على الكتب الشرعية، ولديهم القدرة على التواصل الإلكتروني (فيما يحبون من مواقع!!)، ومع ذلك تجدهم يتصلون هاتفياً ويتحملون تكاليف الاتصال ويصبرون على مرارة الانتظار؛ ليطرحوا أسئلتهم على المفتي في قضايا مشهورة ومعروفة قد تلقى السائل أجوبتها عشرات المرات طوال حياته، ومع ذلك ما زال يتصل ليسأل عنها (بما أننا في رمضان لاحظوا كم مرة سيسألون عن القطرة هل تفطر؟ وما كفارة الجماع في نهار رمضان؟!!).

إنني أرى في هذا النمط من الأسئلة دلالة على هشاشة المعرفة الدينية وعلامة واضحة لحالة الكسل الفكري لدى (الأميين المتعلمين) - إن جاز الوصف -؛ فهم لا يكلفون أنفسهم عناء البحث في وسائل المعرفة المتاحة لديهم، سواء في كتب الفتاوى المطبوعة أو المواقع الإلكترونية الإسلامية المعروفة لكبار العلماء والمفتين ليتضلعوا في أمور دينهم وينهلوا من العلم والفقه بما يتناسب مع مؤهلاتهم العلمية ومستواهم الدراسي، ويتطلعوا بتروّ وتؤدة على فتاوى العلماء المكتوبة، ويستمعوا للأدلة الشرعية ويتفهموا دلالاتها، بل حتى يعرفوا الآراء الأخرى في المسائل - إن وجدت - من باب زيادة العلم.

ومما يلاحظه المتابع وجود فئة - قليلة عددياً - تتصل على الهواء رغبةً في تسجيل موقف فكري معين إزاء بعض القضايا الجدلية في المجتمع مغلفة هذه الغاية بغلاف سؤال طويل بليغ، وتحرص على توجيه العالِم والمفتي للحديث وفق التوجه الذي يريده المتصل، وهذه الفئة - وإن كانت تتذرع بحبها للنصح ونفع المستمعين - يؤخذ عليها نقلها للصراعات الفكرية والسجالات الحركية، من إطاراتها الضيقة، زماناً ومكاناً، إلى برامج إفتائية تختص بتبيان الحلال والحرام في المسائل المهمة لعامة الأمة في كل مكان.

وهي محاولات اجتهادية غير موفقة لجرِّ العالِم والمفتي إلى الدخول في مهاترات غير نافعة؛ ولذا تجد هذه الاتصالات - في الغالب - رداً مقتضباً من المفتين؛ إدراكاً منهم لغاية السائل!

وتمثل السيدات نسبة كبيرة من هذه الفئة، بسبب كثرة المسائل الشرعية المتصلة بهن من جهة اللباس والزينة والطهارة والعلاقات الزوجية، كما أن مرونة جدول أعمالهن اليومي تيسر لهن التنقل من هذه المحطة إلى تلك بحثاً عن الفائدة؛ فتراهن دوماً ما يدندنَّ حول قضايا وموضوعات قُتلت وأُشبعت إفتاءً من أمثال أسئلة: (ما حكم التشقير وزكاة الحلي، وأحكام الدماء الطبيعية وألوانها؟!).

وأظن أن معظم أسئلة السيدات تعبر عن حالات من الإحباط النفسي وتدل على تنامي الخوف من الفشل في العلاقات الاجتماعية (العمل أو المنزل)، وهي تحمل في بعض ألفاظها تعابير تدل على قدر من الفراغ والوحدة والعزلة الفكرية بين أفراد الأسرة، وتشي بضعف الثقة في إفشاء الأسرار والمعاناة للأزواج أو الآباء.

وأرى في اتصالاتهن الهاتفية محاولة للبحث عن طوق نجاة، وهن بالتالي يبحثن عن مرشد اجتماعي أو طبيب نفسي يساعدهن على الخروج من وضعهن السيئ، وحل مشكلاتهن الأسرية أكثر من احتياجهن إلى فتوى.

وإدراك الحالة النفسية والاجتماعية للمتصلات قد يفطن له بعض المفتين فيتعاملون مع السائلة بذكاء ويجيبونها بأبوية، ويراعون جانبها النفسي والاجتماعي في مضمون الفتوى؛ فيكون لهم من التأثير والجماهيرية والنفع أكثر من غيرهم (الشيخ عبدالله المطلق وسلمان العودة.. على سبيل المثال).

وقد لا يحسن بعض المتصدين للفتوى التعامل مع اتصالات السيدات اللائي لا يفلحن في التعبير بين يدي الشيخ على الهواء مباشرة، بداعي الخجل والعجلة؛ فتصدر عنهم فتاوى متكاملة من الناحية الفقهية والشرعية، ولكنها غير مراعية للظرف الاجتماعي والنفسي الذي يحيط بالسائلة؛ فيقع أحياناً ما لا تحمد عقباه بسبب هذه الفتوى!

وفي ظني أن الشريحة المستهدفة بالدرجة الأولى لهذه النوعية من البرامج هي الشريحة التي كان نصيبها من التعليم النظامي والديني محدوداً؛ فهي - لا شك - الأحق بالاتصال والسؤال رفعاً للجهالة عن نفسها، واستجابةً لأمر رب العالمين بقوله: (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ).

ويلحظ الدارس لأسئلة هذه الفئة (الأمية) - إن جاز الوصف - أنها تتركز على تصحيح العقائد والعبادات والمفاهيم المغلوطة التي نشأ عليها المتصل بسبب قلة تعليمه وضعف اختلاطه بالأوساط الحضرية، وأن المتصلين يوردون التفاصيل الدقيقة في الحادثة الواحدة، وذلك عائد إلى ضعف قدراتهم على الاختصار، وعدم إلمامهم بما يحتاج إليه المفتي من سياق متصل بالفتوى؛ فلذلك يفضلون أن يسردوا عليه القصة كاملة.

وأحياناً يقف المتابع مشدوهاً عندما يستمع لسؤال قادم من أطراف المدن بلهجة عامية عن حادثة وقعت في حج عام 1395هـ، أو عن صحة عقد شراء مات بائعه ومشتريه وشهوده، أو عن كيفية قضاء صوم مترتب منذ ست سنين!

ولكن الباحث المنصف لا يحمِّل السائل أي ملامة ما دام أنه تائب يبحث عن الكفارة أو نادم ينشد تصحيح الخطأ، ولكنه يتساءل عن مدى قيام الأفراد والمؤسسات المعنية بواجبها في التوجيه والإرشاد والإفتاء!

وأنا أتساءل هنا وأبحث أيضاً عن (مجيب وليس مفتياً)..

هؤلاء المستفتون هل أتاحت لهم الجهات المعنية عن نشر العلم بالمساجد فرصاً كافية للالتقاء بالعلماء وكبار طلاب العلم ليسألوهم وجهاً لوجه؟ هل يوجد في قراهم ومدنهم من القضاة والمشايخ ممن يملك القدرة على إفتائهم وتوجيههم؟ وهل في مدنهم الكبرى فروع أو ممثلون للجهات الإفتائية بشكل أو بآخر؟ وهل تلقوا في التعليم العام والجامعي مواد دراسية تعلمهم كيف يبحثون لا كيف يحفظون ثم ينسون؟

إن في الإجابة عن التساؤلات السابقة - بتجرد وموضوعية - بوابة لفهم سبب إقبال المتصلين على البرامج الإفتائية، ومدخلاً أساسياً لتطوير الجهود الإفتائية بشقيها الرسمي والتطوعي.



mhoshan2000@hotmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد