الحلم هو شرارة الإبداع، والخيال هو الخطوة الأولى نحو الابتكارات والتألق العلمي والنظري. وعندما يُصادر المجتمع، أو مؤسساته، (الحلم)، ويُحاصر الخيال، وأدبيات الخيال، ومُحفزات الخيال، فإن النتيجة الحتمية هي (التخلف) الحضاري.
كل هذه الاختراعات والمنجزات التي نعيش في ظلالها، وننعم في خيراتها، كانت يوماً ما حُلماً دار في خيال إنسان، فتولاه بالتفكير والمحاولات والمثابرة والإصرار حتى أصبح حقيقة. (توماس أديسون) الذي بدّد الظلام بالمصباح الكهربائي، وأنار باختراعه الدنيا، يقول عن نفسه: تعلمتُ ألف طريقة (خاطئة) قبل أن أصل إلى المصباح الكهربائي!.. أديسون - كما يقول تاريخه - كان طالباً فاشلاً، فُصل من مدرسته بعد ثلاثة أشهر من دخوله إليها لأنه كما قال مدير مدرسته (بليد) ويُعاني من ثقل في سمعه، ولا يصلح للتعليم، غير أن هذا الطفل سُجل باسمه فيما بعد أكثر من ألف اختراع، كان المصباح الكهربائي الذي أضاء الدنيا أهمها على الإطلاق. كان أديسون صاحب خيال واسع وخصب، وأحلامه لا ينافسها إلا إصراره على النجاح. كان الفشل يدفعه إلى التجربة ثانية، وثالثة، وحتى الألف، وكان النجاح يُغريه بنجاح آخر؛ وكان خياله هو المَعين الذي يستقي منه الإبداع. ومحاولاته الجادة، وكذلك العمل والمثابرة، كانت مُجتمِعَة هي (الشرط الآخر) والأهم، وربما الأصعب، للنجاح؛ وأديسون هو الذي يقول: (العبقرية هي 1% إلهام و99% جهد وعرق).. ولك أن تتصور لو أن هذا العبقري الفذ ولد ونشأ وترعرع في أحد المجتمعات العربية ماذا سيكون طموحه، وما عسى أماله وأحلامه أن تكون؟
والمجتمع الخامد يُحارب الإبداع، ويكره التغيّر، ويُصادر الأحلام، ويُحارب الفنون والآداب، ويَرى في (الثبات) بقاءه، وفي التغير زواله. وعندما يُصبح الثبات، وكراهية التغيّر ثقافة اجتماعية تحميها العادات والتقاليد ومؤسسات المجتمع المحافظة، ويُعتبر المساس بها مساساً بهوية المجتمع، فلن يبرحَ هذا المجتمع مكانه، ولن تفيد فيه كل الوصفات التنموية؛ سيرفضها دون أن يعي أنه يرفض (التنمية)، وسيظل متخلفاً اتكالياً مُنهكاً، يعيش (عالة) على ابتكارات الآخرين ومنجزاتهم، وإن بدا في الظاهر مُتعافياً.
ومشكلة أغلب المجتمعات المتخلفة حضارياً هي القراءة (الاحتفائية) بالتراث، واستعادة إنسان هذه المجتمعات أمجاده الغابرة بطريقة اجترارية، ورفض أي قراءة (نقدية) لتراثه، ليصبح نقد هذا التراث (انتقاصاً)، ومحاولة فهمه، وفهم دوافعه، وأسباب تشكله، ناهيك عن أخطائه، ضرباً من ضروب (المرفوض) اجتماعياً، الأمر الذي يُعطي هذا التراث ما يُشبه (الحصانة) تَمنع نقده، أو حتى قراءته قراءة موضوعية بعيداً عمّا تمليه (العواطف)؛ فالهوى أو العاطفة عندما تدخل إلى أيِّ قراءة (موضوعية) تفسدها بالضرورة.
وكلما ضاق حلم الإنسان ضاق أمله. وحينما يفقد الإنسان الحلم، ويتلاشى الأمل، يَميل إلى العزلة، والتقوقع، وتنقطع صلاته بخارج محيطه الضيّق، ويهرب من مواجهة حاضره فضلاً عن مستقبله (بالعودة) إلى العيش في أمجاده الماضية؛ فتراه لا يَمل من الحديث عن الماضي، وما انطوى عليه من أحداث وأمجاد وبطولات. وما ينطبق على الفرد ينطبق - أيضاً - على المجتمعات. إلى اللقاء.