كثيراً ما تتردد كلمة الإصلاح في خطاباتنا الدينية والسياسية والاجتماعية، لكن مقاصدها تختلف باختلاف مصدر الكلام وسياق الخطاب، فالإصلاح في بعض اتجاهات الخطاب الديني يعني الإصلاح العقدي، ومحاربة أهل البدع والملل والعقائد المخالفة، ويتوقف هذا الخطاب عند هذا الحد، ولا يتجاوزه إلى الدعوة لإصلاح الدنيا، والتي يتم نفيها من خلال فلسفة الزهد من الدنيا، وأن البشر غرباء في الحياة الدنيا، وكمستظل تحت ظل شجرة قام عنها وتركها، لكن الخطاب الديني قد يختلف باختلاف الزمان والنصوص، وقد يأخذ في زمن آخر زمام الأمور في الدنيا، ويحث المسلم على العمل والاجتهاد في دنياه (أنتم أعلم بشؤون دنياكم)، ويطالب بالتفكير والعمل من أجل غدٍ أفضل، (ومن كان في يده فسيلة فليغرسها)، وهذه دعوة صريحة إلى الاهتمام بالمستقبل والعمل من أجل غدٍ أفضل..
ترجع أسباب الاهتمام بالحياة الدنيا والآخرة، وبالإصلاح والفساد، والتزمت والتساهل لعوامل عديدة، يأتي في مقدمتها الوعي والتعليم والبيئة والتقاليد والجغرافيا والتاريخ والاقتصاد، لكن ما يؤدي إلى فساد الحياة هي محاولة احتكار تفسير النص الديني، وعسف الأصول للأغراض الضيقة، وذلك من خلال منهج الانتقائية في الاستدلال الديني من أجل تأكيد مواقف محددة سواء كانت زاهدة أو إصلاحية أو متشددة أو متساهلة، فالتراث يحفل بآراء تتسع لمختلف الآراء، ويوجد غالباً أكثر من رأي أو اتجاه في المسألة الواحدة، وهذا هو الشاهد في هذه المقالة القصيرة..
حسب رأيي المتواضع، يظل المجتمع في عقله الجمعي هو الذي يدفع الخطاب الديني في أي اتجاه يريد، ودائماً ما يكون التأثير الاجتماعي في الخطاب الديني في الوقت الحاضر أقوى بكثير من تأثير خطاب المجتهد الديني في الناس، فالناس يرفعون من خطاب وينزلون من آخر، لذلك تجد المجتهد الديني في أغلب الأحيان يحاول ألا يتصادم مباشرة مع الناس، وقد يجاريهم لحد ما، وغالباً ما تفرض الناس بمختلف فئاتهم مصالحها على الفتوى ودوائر الاجتهاد، ويكون ذلك في ميلهم للفتوى الأكثر ملاءمة لحياتهم ولمصالحهم الخاصة والعامة..
فعلى سبيل المثال اختار الناس في مرحلة زمنية سابقة الحكم الأسهل في قضايا الطلاق، ونال من أفتى بها شهرة واسعة، كذلك تكرر الموقف في مسائل الزواج في السنوات الأخيرة، حيث لم يُذكر في كتب الأثر الديني ما يُطلق عليه في الوقت الحاضر بزواج المسيار والمسفار، ولم يرد في الأثر الصحيح ما يشير إليهما، لكن الفقهاء استجابوا لرغبات المجتمع، ولأنهم كانوا يدركون جيداً أن رابط الزواج في الإسلام يعد سهلاً عند مقارنته بالأديان السماوية الأخرى، ولم يمانعوا من تمرير توسيع دائرة الزواج ليشمل المسيار وغيره، فما يحتاج إليه الرجل العاقل والقادر لكي يتزوج من امرأة أخرى هو شاهدان مع موافقة ولي أمرها عند أغلب الفقهاء، بينما لا يشترط ذلك أبو حنيفة، وهو ما يعني أن الزواج يصح إذا تم إشهاره، وإن كان للترفيه والسفر وغيرهما من الأغراض التي فيها تلبية لأهواء ورغبات الطرفين..
كذلك ظهر ذلك التباين في الموقف من البنوك، فما زلت أتذكر جيداً في مراحل التعليم المبكرة أننا كنا نتوجس من البنوك، وننظر إلى مبانيها العملاقة بريبة شديدة، فقد كان الموقف الفقهي آنذاك ينهى الناس عن الجلوس في ظلال البنوك، فما بالك بالعمل أو التعامل معها، لكن الوضع تغير في الوقت الحاضر استجابة لرغبات المجتمع ممثلاً بمختلف أطيافه، وصار البنك ظلالاً للجميع بدءاً من عالم الدين إلى ضابط أمن البنك، وقد يكون الموقف القديم المتزمت أيضاً استجابة لمرحلة الرشد الإسلامي، وكان الموقف الجديد طريقاً جديداً في نهج المحافظة التاريخي..
تنحصر المسألة بإيجاز في أن المجتمع أو الناس هم العامل الأهم في تحديد بوصلة اتجاه الاجتهاد الديني، وفي تحدد الخطوط العريضة في الخطاب الإسلامي، والسبب حسب وجهة نظري يكمن في سعة أفق النصوص الدينية، وفي تنوع واختلاف مواقفها، ولعل ذلك فيه رحمة للعالمين.. إذا لم يؤدِ الاختلاف إلى الاصطدام العنيف بين المجتهدين في تعاليم الدين الحنيف.. والله أعلم..