Al Jazirah NewsPaper Thursday  20/08/2009 G Issue 13475
الخميس 29 شعبان 1430   العدد  13475
شيء من
فليُخصَ الرجالُ خوفَ أن يَزنوا!
محمد بن عبداللطيف آل الشيخ

 

عنوان هذا المقال ليس من قولي وإنما من نقلي؛ نقلته بالنص من كتاب (الإحكام في أصول الأحكام) للإمام ابن حزم - رحمه الله - في حديثه عن سد الذرائع. وأنا (أتعمّد) بين الحين والآخر إبراز ما جرّه علينا مفهوم بعض المتشددين لقاعدة (سد الذرائع) من مآسٍ؛ حتى لا نكرر أخطاءنا، مثلما فعل أسلافنا عندما حرموا القهوة، والبرقية، والدراجة، والتنقيب عن النفط والمعادن، وتعليم المرأة، والأكل بالشوكة والملعقة، والتلفزيون، والقنوات الفضائية، والجوال أبو كاميرا.. والقائمة تطول. ومكتبتي تحتوي على كثير من المؤلفات والرسائل في تحريم هذه المستجدات التي تتخذ من هذه القاعدة مُسوغاً للتحريم، ما أن أتصفحها حتى أشعر أن (المنع) في ذهنية المتشددين دائماً هو أقرب من (السماح)، وكأنّ قاعدة (الأصل في الأمور الإباحة) لا قيمة لها في معاييرهم؛ فالأصل في الأمور (التحوّط)، والقول بالمنع، حتى يَفرضُ الحلال نفسه فرضاً. السبب في رأيي أنّ آلية (سد الذرائع) بمعناها الذي يسيطر على أذهانهم؛ يقوم على تحريم الحلال الذي لا شبهة فيه سداً للذريعة، وضيّقوا على المسلمين سداً للذريعة، وفرّطوا في المصالح سداً للذريعة؛ وإذا ناقشتهم وصموك بالجهل، ونسوا أنهم كانوا يحرمون بالأمس ما يحللونه اليوم؛ والسؤال الذي بودي أن يجاوبني أحدٌ عليه: من الذي معه الحق الذي يُحرّم اليوم ما يبيحه في الغد، أم الذي يناقش ويسأل، ويطلب الدليل؟.. ومن نقاشاتي وحواراتي مع المتشددين وجدت أن هناك تهمتين لا يملون من اتهام مخالفيهم بهما، وهما: (التجهيل) و(الحكم على النوايا).

الإمام ابن حزم - رحمه الله - له رأي وجيه في قاعدة (سد الذرائع)؛ وأجد أننا في أمس الحاجة للعمل بهذا الرأي في زماننا الحاضر، لاسيما وقد أصبح (التوسع) في تطبيق هذه القاعدة حجة من لا حجة له في تحريم المباح؛ فابن حزم يتحفظ على (إطلاق) هذه القاعدة كما يفعل المتشددون لدينا، وهو - بالمناسبة - لا يُلغيها كلية وإنما يُقيدها؛ فشرط تفعيل هذه القاعدة عنده أن تكون الذريعة تُفضي إلى مُحرم (استيقاناً) وليس مجرد (احتمال أو ظن)؛ يقول في (الإحكام) ما نصه: (كل من حكم بتهمة أو باحتياط لم (يُستيقن أمره)، أو بشيء خوف ذريعة إلى ما لم يكن بعد، فقد حكم بالظن، وإذا حكم بالظن فقد حكم بالكذب والباطل، وهذا لا يحل، وهو حكم بالهوى، وتجنب للحق، نعوذ بالله من كل مذهب أدى إلى هذا، مع أن هذا المذهب في ذاته متخاذل متفاسد متناقض؛ لأنه ليس أحد أولى بالتهمة من أحد. وإذا حرم شيئاً حلالاً خوف تذرع إلى حرام، (فليُخصَ) الرجالُ خوف أن يزنوا، وليُقتل الناس خوفَ أن يكفروا، وليقطع الأعناب خوف أن يُعمل منها الخمر؛ وبالجملة فهذا المذهب أفسد مذهب في الأرض؛ لأنه يؤدي إلى إبطال الحقائق) انتهى.. فاستعماله - رحمه الله - عبارة (ما لم يُستيقن أمره) لا يلغي القاعدة - كما يتصور البعض - وإنما (يضبط) وجه تفعيلها. و(إطلاق) هذه القاعدة دون ضوابط هو ما يعنيه بقوله: (فهذا المذهب أفسد مذهب في الأرض). يقول في المصدر نفسه: (ليس الاحتياط (واجباً) في الدين، لكنه (حسن)، ولا يَحِل لأحد أن يقضيَ به على أحد، ولا أن (يلزم) به أحداً، لكن يندب إليه؛ لأن الله تعالى لم يوجب الحكم به). انتهى. فمجرد الاحتمال أو الظن، لا قيمة له عنده، كما هي مشكلتنا مع أصحاب الفكر المتشدد.

يقول ابن تيمية - رحمه الله - في الفتاوى: (وتمام الورع أن يعلم الإنسان خير الخيرين وشر الشرين، ويعلم أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وإلا فمن لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعية والمفسدة الشرعية قد يدع واجبات ويفعل محرمات، ويرى ذلك من الورع؛ كمن يدع الجهاد مع الأمراء الظلمة، ويرى ذلك ورعاً، أو يدع الجمعة والجماعة خلف الأئمة الذين فيهم بدعة أو فجور ويرى ذلك من الورع) انتهى.

وبعد، أريدكم فقط أن تقرؤوا رأي ابن تيمية بتمعّن، ثم وازنوه بما يطرحه المتشددون، وبالذات (الحركيون) منهم، الذين لا يهمهم إلا مصلحة (الحركة)، ومقتضيات قوة وسيطرة الأيديولوجيا السياسية التي لها ينتسبون.

إلى اللقاء.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد