الانتقام ذكر - في الغالب - في معرض الذم، ويُقْرَنُ بقسوة القلب، وغِلَظِ الطبع.
بل إن كثيراً من الناس لا يعرف الانتقام إلا من هذا المنحى. لكن هناك نوع من الانتقام محمود العاقبة، حسن الوقع. ألا وهو الانتقام من عدو ينال نيله من كل أحد، ويسعى سعيه لإيقاع الناس في حبائله. وبمقدور كل إنسان عاقل أن يرُدّ كيد ذلك العادي المتسلط إذا هو أخذ بالأسباب المشروعة. ولعل المقصود من ذلك الانتقام المحمود قد تبيّن، ألا وهو الانتقام من الشيطان؛ فكم من الناس من يغفل عن هذا النوع؛ فإذا أوقعه الشيطان في بلية، وأغواه في فعل معصية أسلم له قياده، وأعانه على ضعف قلبه، فصار يتمادى في فعل السيئات التي تزيده وهناً على وهن.
وهذه بلية تعتري كثيراً من القلوب؛ فالقلب - كما يقول ابن القيم - رحمه الله - يذهل عن عدوه؛ فإذا أصابه منه مكروه استجمعت له قوته، وطلب بثأره إن كان قلبه حرّاً كريماً، كالرجل الشجاع إذا جرح فإنه لا يقوم له شيء، بل تراه بعدها هائجاً، طالباً، مقداماً.
والقلب المهين كالرجل الضعيف المهين؛ إذا جُرح ولى هارباً، والجراحات في أكتافه. وكذلك الأسد إذا جرح فإنه لا يطاق؛ فلا خير فيمن لا مروءة له، لا يطلب أخذ ثأره من أعدى عدو له؛ فما شيء أشفى للقلب من أخذه بثأره من عدوه، ولا عدو أعدى له من الشيطان؛ فإن كان له قلب من قلوب الرجال المتسابقين في حلبة المجد جدّ في أخذ الثأر، وغاظ عدوه كل الغيظ وأضناه، حتى يقول الشيطان يا ليتني لم أوقعه فيما أوقعته فيه؛ فيندم الشيطان على إيقاعه في الذنب كندامة فاعله على ارتكابه، لكن شتان ما بين الندمين.
وقد جاء عن بعض السلف أنه قال: (إن المؤمن لينضي شيطانه كما ينضي أحدكم بعيره). والله - عز وجل - يحب من عبده مراغمة عدوه وغيظه.
وهذه العبودية من أسرار التوبة؛ فيحصل من العبد مراغمة العدو بالتوبة؛ والتدارك وحصول محبوب الله من التوبة وما يتبعها من زيادة الأعمال - ما يوجب جعل مكان السيئة حسنة، بل حسنات.
وبناء على ما مضى فإنه يجدر بالعاقل اللبيب أن يلحظ هذا المعنى؛ فإذا ثبطه الشيطان - على سبيل المثال - عن الصلاة ثم فاتته لم يقف أمام داعيين: إما أن يستمرئ هذا الصنيع، فلا يحرك ذلك بعدها في قلبه شيئاً.
وإما أن يبالغ في الندم، ويسترسل مع الحزن الذي لا يجدي، فيفوته بذلك أعمال صالحة من شأنها أن تسد الخلل الماضي، بل ربما فاته عدد من الصلوات في ذلك اليوم؛ بحجة أنه حزين على تلك الصلاة التي فاتته!
واللائق في مثل هذه الحالة ألا تمر عليه مرور الكرام؛ فيتبلد إحساسه، وألا يسترسل مع أحزانه؛ فيفوته الخير الكثير - كما مر - وإنما يجعل ذلك ذريعة للتعويض، وسد الخلل، وزيادة العمل.
وإذا أغواه الشيطان، فأطلق بصره فيما حرم الله ثم وجد ظلمة في قلبه - فليبادر إلى قلع ذلك الأثر بزيادة النظر في كتاب الله؛ تدبراً وقراءةً، وطلب شفاء.
وإذا قصر في حق والديه، أو أرحامه فليبادر إلى البر والصلة.
وإذا ذكر أحدا بسوء فليسارع إلى الاعتذار منه، أو الدعاء والاستغفار له، وذكره بالخير، وهكذا. ولو أخذنا بهذه الطريقة لقطعنا على الشيطان طرقاً من الشر كثيرة، ولفتحنا على أنفسنا أبواباً من الخير واسعة.
جامعة القصيم