Al Jazirah NewsPaper Friday  14/08/2009 G Issue 13469
الجمعة 23 شعبان 1430   العدد  13469
لماذا لا ننصف عندما نحكم على الآخرين؟!
عبد الله بن محمد السعوي

 

كثيرا ما يتلبس تفكيرنا الذاتي بلون من الانتقائية نتجافى على ضوئها عن الدقة في الأحكام وعن الرشد في القناعات وتقع عقولنا ضحية لجملة من الالتباسات التي توجه مسارات الوعي على نحو منافٍ لما تقرره اشتراطات التعاطي المنطقي.

يتجلى هذا إبان الحكم على الأشخاص أو الجماعات أو الأحزاب أو المذاهب فيجري التعاطي على نحو جزئي مع الصورة الكلية وقد يتجاوز الأمر إلى النفخ في العناصر الاستثنائية حتى تتورم وتبدو كما لو كانت هي الطابع العام المُشكل لتلك الصورة, فعندما ينتابنا شعور ودي عارم نحو أحد الشخصيات التاريخية الحافل مشوارها بالإنجازات فنؤخذ بإقدامه المتوثب وتفانيه اللا مألوف ونقتل ذلك إطراءً في الوقت الذي نتعامى فيه عن أبعاد محورية في شخصيته مثل كونه لا يحفل بإقامة الشعائر الدينية أو يتلبس بضرب من النرجسية المقيتة فنغض الطرف عن ذلك ونجري تقييماً له من أفق محامدة الجمالية فحسب. وفي المقابل أحياناً عندما نشاهد شخصاً ما قد ارتكب محذوراً شرعياً وقد أصر عليه فإننا - وهذه كارثة! - نختصر ذلك الشخص في تلك المخالفة فنضخمها ونحيلها إلى بؤرة الوعي ونجعل من ذلك السلوك الذي قد يكون استثنائياً طابعاً كلياً له حكم الاطراد!.هناك مثلاً إذا رأى شخصاً مبتلى بالتدخين حكم عليه بالإلغاء! ولا يلفت وعيه ما قد يجسده هذا الشخص من ملامح خيرية قد تكون هي القاعدة الجوهرية في سلوكه العام.هناك من إذا شاهد مطيلاً إزاره أو مزيلاً لشعر وجهه أشاح بوجهه عنه مع أنه قد يكون فاضلاً طيب القلب دمث الخلق محافظاً على الفرائض التعبدية! وبالعكس هناك من تغره المظاهر فهو إذا رأى من يوحي مظهره بالتدين التقط هذه الصورة الشكلية وتعاطى معها بحسبها ذات امتداد شمولي يعم متباين مكونات الذات مع أن هذا قد يكون من الذين يفتقدون لنقاء الطوية الذين إذا أووا إلى مجالسهم الخاصة لا يكفون عن ازدراد لحوم البشر, وقد لا يستوفي شبعه في هذا المضمار, أو من الذين يقدسون المال ولديهم كامل الاستعداد للتخفف من كثيرٍ من الضوابط الأخلاقية في سبيل الظفر به!مثل هذا الصنف لا تتجلى حقيقته إلا عندما تدلف معه في تعاملات مادية مباشرة!.إن المظهر جزء من الشخصية ولذا فلا يسوغ أن يعتمد عليه وحده إبان إسقاط الأحكام الخيرية المحضة والشرية المحضة لا توجد الأعلى نحو بالغ المحدودية، ومن هنا فكل إنسان له جانب من المحاسن وجانب من المساوئ والإنصاف كقيمة حيوية يفترض أن نحييها تقتضي اعتبارهما على نحو متوازن.إن المجرم الذي بلغ في الإجرام مداه لا يخلو من مواطن للإيجاب, بل حتى الوالغ في مستنقعات الكفر لو تمعنت أحياناً لألفيته لا يخلو من منظومة من الخلال ذات الرونق الأخاذ - ولسنا هنا في مقام التمثيل لذلك - كما أن المتدين النوعي على الضفة الأخرى لا يخلو من ثُلم تشوب كيانه, هذه الثلم تتمثل غالباً في أمراض القلوب وحظوظ النفس الأمارة وعدم سلامة السريرة التي تبدو متبرجة من خلال لغة الجسد والرسائل غير اللفظية, أو من خلال فلتات اللسان. إن العبرة طبعاً بالأعم, والموضوعية تقتضي العدل, والألمعي اليقظ ينظر بعينين متوازنتين ويتحرى المصداقية وسع الطاقة فلا يبخس الناس أشياءهم بل ينعتهم بواقعية حتى ولو كانوا ينتمون إلى أفق عقدي مغاير.إن الكمال عزيز, والخطأ طبع بشري, وكفى بالمرء نبلاً أن تعد معايبه. كثير من المفكرين أو السياسيين أو الشخصيات العامة عندما نحكم عليهم نتجافى عن المنطقية ونسقط في فخ الحيف ويعزب عن وعينا أنه كثيراً ما يحتوي الشخص الواحد على ما يستوجب المدح ويحتوي أيضاً على ما يقتضي الذم والقيام لله بالقسط يفرض اعتماد تلك المعادلة حيث لا منافاة بين أن يُثنى على الإنسان من وجه ويُذم من وجه آخر, ويثاب من وجه ويعاقب من وجه آخر, ويُحب من وجه ويُبغض من وجه آخر, بل إن هذا المنهج المتكئ على النسبية هو منهج أهل السنة والجماعة. الكثير منا يتعسر على معدته الثقافية هضم هذه الفكرة ولذلك فلو أثنيت أمامه على شخص ما في جانب معين ثم نقدت هذا الشخص في جانب آخر فإن هذا قد يفسر من قِبله على أن ثمة تناقضا استبد بك وأن كلامك متعارض ومنهجك متقلب! فهو يريد منك مدحاً دائماً أو ذماً دائماً!, ولا يدرك تلك الموازنة الجوهرية والتي مفادها: أن الفرد الواحد قد ينطوي في ذاته على محامد وعلى مثالب وأنه قابل للمدح وللذم في آنٍ واحد. ورحم الله الإمام (الذهبي) حيث كان منصفاً في كتابه (سير أعلام النبلاء) وقد جسد تلك الموازنة في اسمى صورها فكان في غاية الإنصاف وإليك هذه الأمثلة الدالة على ذلك: قال عن (المأمون) الذي تبنى فتنة القول بخلق القرآن (وكان من رجال بني العباس حزماً وعزماً ورأياً وعقلاً وهيبةً وحلماً, ومحاسنه كثيرة في الجملة)(10 - 273) وقال عن (عبدالوارث بن سعيد): (وكان عالماً مجوداً ومن أهل الدين والورع إلا أنه قدري مبتدع)(8 - 301) وقال عن (الواقدي):(وإن كان لا نزاع في ضعفه فهو صادق اللسان كبير القدر)(7 - 142)وقال عن (الحكم بن هشام):(وكان من جبابرة الملوك وفساقهم ومتمرديهم وكان فارساً شجاعاً وكان ذا دهاء وعتو وظلم)(8 - 254) وقال عن (الجاحظ): (العلامة المتبحر ذو الفنون وكان أحد الأذكياء وكان ماجناً قليل الدين له نوادر) (11 - 256) وقال عن (قرة بن ثابت): (الصابيء, الشقي, الحراني فيلسوف عصره.. وكان يتوقد ذكاء) (13 - 285) فتأمل عزيزي القارئ في هذا المنهج وقارنه بواقعنا المحكوم في الغالب بخيار حاد الإمائية: إما أسود وإما أبيض, بل إن مساحة السواد في الغالب هي التي تصطبغ بها أحكامنا التزويرية المتكئة على الحيدة عن المنهج التقييمي السوي!



Abdalla_2015@hotmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد