Al Jazirah NewsPaper Friday  14/08/2009 G Issue 13469
الجمعة 23 شعبان 1430   العدد  13469

نوازع
ابن الحجاج
د. محمد بن عبدالرحمن البشر

 

أهدى إلي أخ عزيز كتاب (درة التاج من شعر ابن الحجاج) وهو ليس سوى قليل من شعر هذا الشاعر غريب السلوك، ووجد شعره رواجاً كبيراً وقال الثعالبي إن ديوان شعره بخمسين ديناراً إلى سبعين، كما وصل ديوانه من بغداد إلى الأندلس ولقي قبولاً كبيراً في كل أرض وصل إليها، أما أنا فلم أجد في شعره ما يستحق الثناء سواء في القافية أو الموسيقى الشعرية، أو جزالة اللفظ، أو عمق المعنى، غير أن به من فحش اللفظ والمعنى وسخفهما ما يدعو إلى الضحك والاستمتاع.

والشاعر غريب الأطوار متناقض الأفعال، دمث الأخلاق، ذو دعابة، لا يتورع أن يقول ما يشاء دون حرج من تلميح أو تصريح عما يفعله غيره أو يفعله بذاته، وهو في هجائه قادح دون رادع، لا يبالي كيف يضع لسانه بعد أن يترك له عنانه.

يبدو أنه ولد قبل سنة 330هـ في بغداد وتوفي عام 391هـ، وعاش في عصر أمراء البويهيين ونال حظاً وافراً من الثروة والمال، ليس بسبب وظيفته كاتباً بعد دراسته الحساب واللغة، وإنما بسبب موهبته الشعرية ودعابته التي أصبح بسببها مجالسا لكبار رجال الدولة، وقريباً من قلوبهم، فقد كان وهو في مقتبل العمر على اتصال بالوزير المهلبي الذي تعرف عليه من خلال صديقه الصابئ، كما أن لديه الملكة والرغبة في الوصول إلى قلوب ذوي الشأن بفضل دعابته وشعره، وقد منحه المهلبي ألفي درهم أكثر من مرة في أكثر من مناسبة نظير قصائد مدح يشبع بها شهوة المهلبي وحبه للفخر والمباهاة.

وكانت هناك شخصيتان هامتان أثرتا في حياة ابن الحجاج هما أبو الفضل العباس وأبو الفرج محمد، ولا ريب أن الاشتراك في الصنعة غالبا ما يؤدي إلى المنافسة والصراع، نال أحدهما لقب وزير ولم ينله الآخر رغم حظوتهما عند السلطان وقد استطاع الشاعر ابن الحجاج أن يكون نديماً لكل منهما ورافعاً الكلفة عند كليهما.

وشخص آخر سجل لنا المؤروخون قصته مع ابن الحجاج، وهو حاجب تركي الأصل لدى الأمير عز الدين البويهي، وكان جاراً لابن الحجاج الشاعر، في منزله الذي عاش فيه والده وجده، وحاول الحاجب بقوة نفوذه أن يستولي على بيت الشاعر، فاحتدم الصراع ولاذ ابن الحجاج بصديقه الوزير أبو الفرج فنافح عنه، وبعد حين انتقل إلى منزل آخر غير بعيد عن إحدى الخمارات - والعياذ بالله - فبنى سداً يحمي بيته الجديد.

وأتيحت له فرصة الالتقاء بالأمير عز الدولة بختيار، فأنشد بين يديه قصيدة ضمنها طلبه بالحصول على وظيفة محتسب بغداد فكان له ما أراد، رغم أن سلوكه الشخصي لا يتفق مع وظيفته الرسمية، وقد كان يتزلف للأمير عز الدولة بختيار بالهدايا والتحف، فأهداه ذات مرة بقرة من فضة، ومرة أخرى أهداه (برنية) مذهبة، ومع كل ما بذل للبقاء في منصبه إلا أنه عزل ليحل محله قاض شبيه بابن الحجاج في منحاه الأخلاقي، لكن ما لبث أن عاد محتسباً مرة أخرى في عهد عضد الدولة، حيث كانت لابن الحجاج علاقة مميزة مع وزيره ابن العميد.

ما دفعني إلى سرد ما ذكر رغم ملالته، هو ما وجدت من تناقض عجيب بين وظيفته التي من اللائق بمتقلدها أن يكون تقياً في سلوكه، عفيفا في لسانه ورعاً غير مجاهر، إلا أنه كان غير ذلك، وأشعاره شواهد عليه، ولقد سئل ذات مرة عن ثمن اللحم، وكانت من وظائف المحتسب منع البائعين من البخس في الميزان، أو رفع الأثمان، فكان جوابه فاحشاً إباحياً والعياذ بالله حيث قال: (أنا على علم بثمن الخمر)، فكيف لرجل حسبة أن يقول مثل هذا؟ لكن يبدو أن المجتمعات الإسلامية قد تبتلى في فترات من مسيرتها بشذوذ عما يجب أن يكون عليه السلوك الإسلامي القويم، ويقول عنه ابن الجوزي: إنه كان يفوض سلطته لستة من أعوانه لم يكونوا أكثر استقامة أخلاقية منه، ولا بد من الإشارة إلى أن ذلك التناقض في شخصية الشاعر ورجل الحسبة ابن الحجاج، موجود أيضا في بعض معاصريه مثل الوزير المهلبي، والقاضيين علي التنوفي، وابن معروف، وهذه دلالة أخرى على سمة ذلك العصر.

والحقيقة أنه كان شاعراً خليعاً، ورجل حسبة، وأيضا من كبار ملاك الأراضي والعقارات، كما أن هناك تناقضاً آخر في شخصيته، فرغم تفسخه في القول وربما الفعل نجده شديد الارتباط بأهله، حيث يقلع عن تعاطي الخمر إذا ما مرض أحد أبنائه، وأستميح القارئ الكريم عذراً في عدم إيراد شيء من شعره لفحشه، لكن أختم مقولتي هذه برثاء الشريف الرضي له بقصيدة منها:

ليبك الزمان طويلاً عليك

فقد كنت خفة روح الزمان

هذا، وقد طلب أن يدفن عند قدمي الإمام موسى الكاظم وينقش على قبره (وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد) فهل يا ترى أنه يرمي إلى أنه يتعلق بإمامه كتعلق أهل الكهف لأصحابه؟ الله أعلم بالسرائر.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد