يعتبر موضوع التقنين من القضايا الاجتهادية التي أثارت جدلا واسعا بين علماء الأمة بين مؤيد ومعارض، فهو موضوع يسوغ فيه الخلاف، وبالتالي فلا إنكار لأحد على أحد في مسألة جرى فيها تباين الآراء، طبقا للقاعدة الفقهية: (لا إنكار في مسائل الاجتهاد).ويرى بعض الباحثين أن فكرة التقنين بدأت منذ عهد - الخليفة - الوليد بن عبد الملك.
تلتها محاولة في عهد - الخليفة - عمر بن عبد العزيز إلا أنه لم يرد لهذه الفكرة أن تحيا. وحاول بعدها عبد الله بن المقفع إحياء تلك الفكرة، فكتب رسالة سماها (رسالة الصحابة)، واقترح على - الخليفة - أبي جعفر المنصور جمع الأحكام الفقهية من خلالها، وإلزام القضاة بالحكم بها. ثم طرحت الفكرة أيضا في عصر- الخليفة - أبي جعفر المنصور حينما أراد إلزام الناس بكتاب (الموطأ)، إلا أن - الإمام - مالك بن أنس رفض ذلك. ثم ظهرت بعد ذلك محاولات عديدة لتقنين الفقه الإسلامي في القرنين الماضيين، منها: (الفتاوى الهندية)، وهي لجماعة من علماء الهند لتقنين العبادات والعقوبات والمعاملات. ومنها: (مجلة الأحكام العدلية) التي تضمنت جملة من أحكام البيوع والدعاوى والقضاء، وصدرت هذه المجلة في عام 1869 م، واحتوت على (1851) مادة، استمد أغلبها من الفقه الحنفي، مرورا بمحاولات قدري باشا الباكرة، شرع في وضع ثلاثة تقنينات على أساس الشريعة الإسلامية، ومن ثم محاولات حسين فخري باشا الذي رأى في عام 1882 م، ضرورة إقامة قانون مدني مستمد من الشريعة الإسلامية.
وفي عهد - الملك - عبد العزيز ألفت (مجلة الأحكام الشرعية) لأحمد بن عبد الله القاري - رئيس المحاكم الشرعية الكبرى - بمكة المكرمة، المتوفى سنة 1309 هـ، وقد اقتصر فيها على المذهب الحنبلي من خلال كتبه المعتمدة، واحتوت المجلة على (2382) مادة.
وقد كانت فكرة التقنين موضع التنفيذ في صورة الإلزام بالحكم بمذهب إمام، ومن ذلك: ما صدر به قرار الهيئة القضائية رقم (3) في 17 - 1 - 1347 هـ، المقترن بالتصديق العالي بتاريخ 24 - 3 - 1347 هـ بما يأتي:
أ- أن يكون مجرى القضاء في جميع المحاكم منطبقا على المفتى به من مذهب الإمام أحمد بن حنبل نظراً لسهولة مراجعة كتبه والتزام المؤلفين على مذهبه ذكر الأدلة إثر مسائله.
ب- إذا صار جريان المحاكم الشرعية على التطبيق على المفتى به من المذهب المذكور ووجد القضاة في تطبيقها على مسألة من مسائله مشقة ومخالفة لمصلحة العموم يجري النظر والبحث فيها من باقي المذاهب بما تقتضيه المصلحة ويقرر السير فيها على ذلك المذهب مراعاة لما ذكر.
ج- يكون اعتماد المحاكم في سيرها على مذهب الإمام أحمد على الكتب الآتية:
1 شرح المنتهى.
2 شرح الإقناع.
فما اتفقا عليه أو انفرد به أحدهما فهو المتبع وما اختلفا فيه فالعمل على ما في المنتهى، وإذا لم يوجد بالمحكمة الشرحان المذكوران يكون الحكم بما في شرحي الزاد أو الدليل إلى أن يحصل بها الشرحان وإذا لم يجد القاضي نص القضية في الشروح طلب نصها في كتب المذهب المذكور التي هي أبسط منها وقضى بالراجح.
وفي عهد الملك فيصل كان موضوع تقنين القضاء يحظى باهتمام منه لإدراكه بأهمية ذلك، فوجه أمره إلى هيئة كبار العلماء في عام 1393 هـ، لمناقشته، فانقسم المجلس بين مؤيد ومعارض، وصدر قرار الهيئة بمنع التقنين وعدم جوازه برأي الأغلبية، في ما رأى ستة من الأعضاء جواز التقنين.
وقد أجاز التقنين جمهور الفقهاء المعاصرين، منهم: الشيخ محمد عبده، والشيخ محمد رشيد رضا، والشيخ أحمد شاكر، والشيخ محمد أبو زهرة، والشيخ مصطفى الزرقا، والشيخ علي الطنطاوي، والشيخ وهبة الزحيلي، والشيخ يوسف القرضاوي، والشيخ محمد الحجوي، والشيخ صالح بن غصون، والشيخ عبد المجيد بن حسن، والشيخ عبد الله خياط، والشيخ عبدالله بن منيع، والشيخ محمد بن جبير، والشيخ راشد بن خنين، والشيخ صالح بن حميد، والشيخ عبد العزيز بن محمد آل الشيخ، ومن أمتع ماقرأت حول حجج الممانعين في مسألة تقنين الأحكام الشرعية وتدوينها، بحثا كتبه - الشيخ - بدر العامر، ذكر من خلاله أن أكبر حجة لهم، هي: أن قضية التقنين تعطل الاجتهاد الفقهي، وربما لا يعرف هؤلاء الأكارم أن الاجتهاد متعطل فعلي في الواقع، وأن عددا كبيرا من القضاة لا يرقون إلى مستوى مجتهد المذهب فضلا عن وصف المجتهد المطلق، وإن الواقع يدل على أننا مقننون أحكامنا تقنينا مطلقا حين اعتمدنا مذهبا واحدا في الأحكام القضائية لا نخرج عنه، فيكون اجتهاد القاضي محصورا في مذهب واحد، فهو تقنين من نوع خاص..
إن الممانعين للتقنين يستدلون بفعل المنصور مع الإمام مالك، حين رفض الإمام مالك إلزام الناس بكتاب الموطأ، ولا يصح قياس إلزام الناس (بمذهب محدث أو فقيه)، على إلزام الناس ب (تقنين أحكام القضاء)، ذلك أن الأول هو في مسائل الفتيا التي هي بيان الأحكام الشرعية لعموم الأمة، وفي حصرها برأي عالم أو كتاب تضييق على الأمة، وقتل لمورد الاجتهاد، وإغلاق للنظر والاستدلال وأعمال العقل في الاستنباط، بينما الوضع في الأحكام القضائية وخاصة الأحكام التعزيرية، فيه مصلحة للأمة، ووضوح في موارد الحكم، وحسما لمادة الاختلاف الكبير الذي يعتمد في الأغلب على طبيعة القاضي النفسية، وقدرته على الاستنباط، والتي تختلف من قاض إلى قاض آخر، وهو محصور في قضايا التعزيرات والأحكام الاجتهادية، ومقتصر على المسألة القضائية فقط، ومن طبيعتها الإلزام بخلاف الفتوى الشرعية التي هي بيان حكم لا إلزام فيه.
ثم إن دعوى أن يؤدي فتح باب تقنين الأحكام القضاية إلى إغلاق باب الاجتهاد، وقصر الناس على مواد ليس بصحيح لأن عملية التقنين هي عملية اجتهادية ومستمرة ومتغيرة بتغير الزمان والمكان، فالمقنن هو في حركة اجتهادية مستمرة، وهذا يمكن أن يشترك فيه القضاة والعلماء والمهتمون بالشأن الحقوقي، وكذلك فإن القاضي يجتهد اجتهادا كبيرا في إنزال الأحكام على أعيان القضايا واختلافاتها، وليس صحيحا أن يتحول القاضي إلى قارئ فقط للأحكام، فكل الدول المدنية التي تحكم بمواد قانونية يجتهدون في قضاياهم، وأحيانا ينظرون إلى ما يسمى بعلم القانون (روح القانون)، وهو ما يقابل في الفقه الإسلامي (مقاصد الشريعة)، ولربما انصرف عن حكم مقنن بمبررات أخلاقية أو نفسية أو اعتبارية أخرى، وهذا كله مرونة كبيرة في عملية الاجتهاد، وممارسة القاضي لحق الاجتهاد، وحتى في اختلاف الأحوال في المخالفات الشرعية، مثل: قضية السوابق والمخدرات وغيرهما، فيمكن أن تحصر كل الأحوال الممكنة من خلال مواد، من خلال قانون السبر والتقسيم.
كذلك فإن تقنين الأحكام لا ينفصل عن تغيرات الواقع، وكثرة المشكلات، وتنوع المؤثرات، وكثرة العدد السكاني، ونشوء قيم جديدة في المجتمعات، وانفتاح الناس على الأمم الأخرى، وخاصة في مجال الاقتصاد، يحتم نشوء مثل هذا الأمر وضرورته فما يمكن أن يقال عام 1392 هـ، لا يمكن ان يقال في هذا العام، فالسلف كانت لهم ظروفهم وطريقتهم في التعليم والقضاء وغيرها، لكننا لا نستطيع أن نطبقها في هذا الوقت، فقد كان القاضي يجلس في المسجد ويحكم بين الخصوم ويقومون راضين بحكمه دون الحاجة إلى سلطة تنفيذية تلاحق الخصوم، فإننا اليوم نرى حجم القضايا والمشكلات التي تحتاج إلى سرعة في إنجازها، وتسهيل عمل القضاة في القضايا المتشابهة، وتأهيل القضاة من خلال وضوح مواد التقاضي يسهل تسيير أمور الناس في واقع حياتهم المعقدة..
كذلك فإن التقنين يقضي على مزاجية كثير من القضاة، وخاصة في قضايا التعزيرات، فالمزاجية لها صلة قوية بحكم العقوبة التعزيرية، ولذا منع النبي صلى الله عليه وسلم القاضي أن يقضي وهو غضبان، لأن النفس البشرية لها إقبال وإدبار، وتتأثر أحكامها بوضعها النفسي والاجتماعي والجسدي، ولذلك تجد هناك اختلافا كبيرا في درجة العقوبة في قضايا متطابقة في أحوالها بين قاض وآخر، بناء على سهولة هذا وغلظة هذا.
وعلى أرض الواقع، فإن التقنين موجود في أنظمة الرشوة، والتزوير، واستغلال النفوذ الوظيفي، والمخدرات، والمرافعات الشرعية، والإجراءات الجزائية، والمحاماة، والشركات، والأوراق التجارية، والعمل والعمال. وكانت وزارة العدل قد كونت هيئة علمية قبل فترة زمنية تتولى صياغة فقه المعاملات، والجنايات، والأحوال الشخصية، وما يتطلبه القضاء في شكل مواد، ودراسة وضع حد أعلى للعقوبات التعزيرية لكل جريمة كي يستند إليها القاضي في حكمه، وقد تناولت الهيئة موضوع التقنين تحت عنوان: (تدوين الراجح من أقوال الفقهاء)، وقسمته إلى جزءين، الأول: حول التدوين، والثاني: حول اللزوم. كما أن هناك اتجاها لتشكيل هيئة علمية عليا، تتولى إصدار مدونات مكتوبة على شكل قوانين، لتكون الأساس في إصدار الأحكام القضائية، وفقا للشريعة الإسلامية وستعمل على إصدار ثلاثة قوانين، هي: قانون للمعاملات المالية، وقانون الأحوال الشخصية، وقانون العقوبات الجنائية.
إن تقنين الفقه الإسلامي من خلال إصدار مدونة يقوم على إعدادها كوكبة من الفقهاء والقضاة والقانونيين، وتنشيط لجان المدونة القضائية المتخصصة وإكسابها صبغة التقعيد القانوني الممزوج بأساسيات التأصيل الشرعي أصبح ضرورة ملحة تتوافق وقضايا الناس العامة ومتغيرات الواقع.
فما المانع من بحث المسألة من جديد عن طريق هيئة كبار العلماء والمجامع الفقهية، وعقد المؤتمرات والندوات لذلك! أليس في تقنين التعزيرات بحسب الجرائم مصالح كثيرة، بدلا عن الحكم على الجريمة الواحدة في محكمة واحدة بعقوبتين مختلفتين، مما أوجد اختلافا في هذه الأحكام بين قاض وآخر، وأوقع بعض القضاة في حرج أمام الرأي العام، وزحزحة ثقة المتقاضين فيما صدر ضدهم من أحكام؟
drsasq@gmail.com