أحيانا أتساءل: لماذا خرج الغرب من تخلفه المزمن، ولماذا نطقت كلماتهم في أحيان كثيرة، وخرجت من حروفها المعاني والأفكار التي كان لها عظيم الأثر على مسيرتهم الحضارية، والأفكار لا يمكن حصرها ضمن قالب واحد، أو عرضها على محاكم تفتيش، فلكل نظرية قراءات متعددة، فقد يجدها البعض مقنعة، وتؤطر لمرحلة، وتسرد نسقاً فكرياً ربما يمتد لمئات السنين، بينما يجدها آخرون قاسية، ولا تصلح للتداول على طريقة ليس كل ما يُعرف يقال، وتلك مصيبة الإرث العربي الثقافي، بالرغم من أنها حقيقة وتستند إلى روايات وأحداث جرت على أرض الواقع..
ولطالما تساءلت عن أيهما يسبق الآخر؛ الفكرة أم الحدث؟ وهل النظريات الفلسفية سبقت الأحداث أي أنها كانت المحرِض لحدوثها؟ وهل كان فيلسوف القوة نيتشة خلف بروز النازية والفاشية أم أن نظرياته كانت انعكاساً لما كان على أرض واقعه في موطنه، أي أن الأحداث كانت تتحرك في المخاض، وتتشكل لكي تبرز في أكثر صورها شفافية.. كما حدث لاحقاً في الانقلاب النازي في ألمانيا.. كذلك كان للحداثة الغربية فرسانها الذين حملوا لواءها على رؤوس الحروف، وكان لها مواطنها التي أثمرت بسببها حضارة لا تغيب عنها الشمس..
كذلك، فقد طال ذلك التساؤل قضية النقل والعقل في تاريخ المسلمين، وهل العقل يأتي قبل النقل، أم أن النقل كان ولا زال الطريق الأوحد في مسالك الشريعة والحياة..، وقد أخذ ذلك الجدل عمراً زمنياً طويلاً في حضارة المسلمين، ولا زال لواء النقل إلى يومنا هذا يقف ضد حراك العقل، والدعوة للنظر في مسائل الحياة والشريعة ليس فقط من خلال آلية النقل، ولكن من خلال إبداعات العقل، وقراءات الواقع..
لا يخفى على متابع تصاعد لغة العنف والإقصاء وإلغاء الرأي الآخر بين فئات المجتمع، وعلى وجه التحديد ضد الآراء التي قد تختلف مع حماة النقل..
وتمتد جذور تلك المعارك الإلغائية إلى القرون الوسطى، وتختلف شدتها من عصر إلى آخر، لكنها في العقود الأخيرة مرت في موجات قبض وانبساط، لكنها ما تلبث أن تعود عنيفة كما في عهودها السابقة قبل عشرة قرون، وبرغم مرور أكثر من عقد من الزمان على دخول المجتمع عصر الإنترنت وتقنية الاتصالات الحديثة والقنوات الفضائية إلا أن الواقع لا يزال يصر على إعادة مزيد من الجدران العالية والمبنية من ثقافة الممانعة ضد الآخر المختلف في الرأي أو المذهب، وذلك من أجل محاصرته ثم منعه من التعبير عن رأيه، وهذه العوازل العقلية تُستنزف العقول الذهنية المتحجرة الجهود في بنائها مما يزيد من تباعد مسافة الفصل بين النقل المتوقف والعقل المبدع.. وتتوقف بسببها كل محاولات الخروج من عصور التكرار..
مر تاريخ الثقافة العربية مرورنا في مراحل تجاوز عنق الزجاجة، وربما ظهرت أولى المحاولات في القرن الرابع الهجري، لكنها فشلت في أكثر من مرة، كان آخرها في عصر النهضة العربية، لكنها دائماً ما تنهزم أمام الرأي المتحجر، وكثيراً ما كان يتبعها سقوط حضاري في مختلف الاتجاهات، وفشل ذلك الجهد العظيم في إصلاح اعوجاج النهج (الأحادي)، أدى إلى اختفائه وانحسار تأثيراته الاجتماعية..
وكان القرن الرابع الهجري أيضاً مسرحاً لخروج نسق طبقة من المثقفين (غير المفكرين)، المنتفعين والباحثين عن مردود مادي من خلال نشاطاتهم الثقافية، كان أغلبهم على نمط أبي إسحاق الصابي، والذي كلفه عضد الدولة بكتابة تاريخ بني بويه، ويحكى أنه مرّ عليه أحد زواره فسأله عن ما يفعل فأجاب: أباطيل أنمقها وأكاذيب ألفقها..