تخرّجت بتفوّق من مدرسة اليمامة الثانوية بالرياض في مطلع الثمانينيات هجرياً، ثم سافرت إلى أبها للسلام على سيدتي الوالدة، طيب الله ثراها، والترويح عن نفسي في رعايتها بعد معاناة طويلة مع الدراسة، كان جسدي واهناً، فزاده همُّ الدراسة وسهرها وهناً، وكنت قد أُنبئت رسمياً أن اسمي مدرج ضمن قوائم الابتعاث إلى أمريكا ذلك العام، وكان ذهني وخاطري مسكونين بهاجس الرحيل إلى العالم الجديد، بما فيه ومن فيه، وأنا الذي لم أتجاوز حدود المملكة سوى لفترة قصيرة أمضيتها في الدراسة الابتدائية بمدينة زحلة اللبنانية قبل بضع سنين، وكانت تلك الفترة كأحلام الضُّحى.. تتراءى كومضة العين.. ثم تتوارى خلف سحب النسيان!
* *
* بعد أيام قلائل من الإقامة مع والدتي، اتخذت قراراً مفاجئاً بالاعتذار عن قبول منحة الدراسة في أمريكا مبتعثاً من وزارة المعارف، وقد اتّكأ ذلك القرار إلى سببين: أولهما دموع سيدتي الوالدة التي كانت تخشى علي من قسوة الغربة وعنائها، وثانيهما: خوفي أنا من مكر الفشل لعدم إتقاني اللغة الإنجليزية، رغم أن حصادي منها خلال المرحلة الثانوية كان (جيداً) بمقاييس التعليم في المملكة آنذاك، وسولت لي نفسي أن ألتحق بجامعة الملك سعود استجابة لرغبة والدتي الغالية، وخوفاً من فشل محتمل سيفسد علي نشوة التفوق في المرحلة الثانوية، وقدرت أنه لا فرق في النهاية في أسلوب التعامل وظيفياً مع الشهادة الجامعية، سواءٌ كان مصدرها (هارفارد) أو جامعة الملك سعود، ومادام الأمر كذلك، فلِم العناء ولِم شدُّ الرحال، ولِم الغربة في ديار قوم لا يؤمن مكر لغتهم ناهيك حضارتهم!
* *
* واستكمالاً لمبادرة الاعتذار عن الابتعاث، أرسلت برقية مطولة إلى والدي طيب الله ثراه، أُنبئُه فيها بقرار الاعتذار عن قبول منحة الابتعاث إلى أمريكا، وظننت أنني بتلك البرقية التي استنفدت أجرتها جُل مصروفي المتواضع، سأفوز بدعم والدي للقرار، كما فُزت يوماً بتأييد جدي لقرار هجر المدرسة لصالح رعي غنمه في سفوح الجبال!
* *
* ومضت أيام معدودات قبل أن (يبرق) لي والدي رداً عنيفاً سفّه فيه قرار الاعتذار، وتساءل في عجب عن السبب في تراجعي المفاجئ عن استثمار قدراتي في مجال التحصيل العلمي لصالح المستقبل، ودعاني بحزم إلى التوجه فوراً إلى الرياض لإنهاء إجراءات الابتعاث!
* *
* لم أكد أفرغ من قراءة البرقية الأبوية الغاضبة، حتى هرولت صوب والدتي، وكنت كمن أفاق من حلم أو عثر على كنز ثمين: قلت لها مبتسماً: (هذا رأي أبي، يا سيدتي أمّ الحنان، وهو رغم قسوته صائب، لكنني ألتمس مباركتك أنتِ لفكرة السفر إلى أمريكا لمدة عام على الأقل.. أخوض خلالها التجربة، فإما فشلت أو أفلحت.. وفي الحالين، لا غنى لي عن بلادي وعنكِ، طال الأمد أم قصر، فأنت كبلادي، الحضن الذي أفخر به وأباهي!) وكان ردُّها رحمها الله عاجلاً وحاسماً ومشجعاً: (اذهب تحرسك عناية الله وتوفيقه!).
* *
* لم تمضِ أيام قلائل بعد هذا الموقف حتى كنت قد شددت الرحال محلقاً صوب العالم الجديد أمريكا، لأبدأ من هناك مشوار اكتشاف الذات، وأعيش تجربة (ميلاد جديد)، ثم يكون من أمري بعد ذلك ما كان! وقد حمدتُ الله كثيراً وقتئذٍ، كما أحمدُه الآن وكل آن، أن منحني التوازن العقلي والوجداني بين حكمة والدي وحنان والدتي رحمهما الله، فلم أفرط برضاهما أو مستقبلي!