Al Jazirah NewsPaper Friday  31/07/2009 G Issue 13455
الجمعة 09 شعبان 1430   العدد  13455
قضاة ومختصون شرعيون يحذرون عبر «الجزيرة»:
«نار» الغضب.. الطريق للمهالك..!!

 

الرياض - خاص بـ(الجزيرة)

مع تزايد الضغوط الحياتية اليومية.. افتقد الكثير من الناس قدرته وسيطرته على ضبط النفس والحدّ من الغضب في مواقف وحالات مختلفة خلاف ما دعت إليه الشريعة السمحة بالتزين بالحلم وضبط النفس. كيف يمكن أن نحقق هذا المطلب الشرعي السمح في تعاملاتنا ومواقفنا من خلال المنهج العقدي الصحيح؟ هذا ما طرحته (الجزيرة) على عدد من المختصين من القضاة وأستاذة الدراسات الإسلامية.. فماذا قالوا؟!

ذكر الله

الدكتور إبراهيم بن صالح الخضيري قاضي التمييز بالمحكمة العامة بالرياض، قال: إذا تحقق الإيمان بالقضاء والقدر والرضا بما قسم الله عز وجل وتحقق للإنسان اتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال: (لا تغضب) لرجل قال له أوصني يا رسول الله فردد مراراً (لا تغضب)، (وقال لرجل غضب: إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)، وأوصى صلى الله عليه وسلم بإطفاء نار الغضب بضرب ماء الوضوء، وأن الإنسان إذا غضب قائماً فليقعد، وإذا كان قاعداً فليضطجع لما في من ذلك من الحكمة التي اكتشفها الأطباء المتأخرون، ولأن الغضب يثير في النفس مصائب جمة، ويعود على الجسم بأضرار بليغة، ومكافحة الغضب تكون بذكر الله عز وجل، وبالوضوء وبالإيمان بالقضاء والقدر، والرضا بما قسم الله عز وجل؛ فبهذه الأمور يتحقق بإذن الله تعالى للإنسان البحث عن السعادة من طرقها الشرعية الصحيحة، والبُعد كل البُعد عن الغضب، ويتجلى في ذلك الاستقرار الذهني والاستقرار النفسي والاستقرار المعيشي تحقيقاً لقوله عز وجل: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}، وقوله عليه الصلاة والسلام: (لا تغضب) ولقول الله عز وجل: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ}؛ فلا بد من البُعد عن الغضب وأسبابه ومسبباته بالرضا بما قسم الله، والإكثار من الوضوء، والإكثار من ذكر الله عز وجل واتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم الذي ذكره ابن القيم في (زاد المعاد) في مكافحة الغضب، وفي غيره من كتب أهل العلم رحمهم الله تعالى.

الإرشادات التربوية

ويقول الدكتور محمد بن سعيد السرحاني، وكيل كلية الدعوة وأصول الدين للدراسات العليا بجامعة أم القرى: يعيش الإنسان في هذه الحياة متعرضاً للمنغصات والمتاعب، ويخالط أناساً يختلف معهم في الرأي، وقد يُبتلى بأنداد أو أقران يكيدون له ويؤذونه، وقد يكون الابتلاء من الأبناء أو الزوجة أو الأهل والأقرباء؛ ما يجعل بعض الناس تتنغص حياتهم، ويتكدر عيشهم، وتتحول سلوكياتهم وتصرفاتهم مع الناس إلى شجار وغضب ونزاع، ويقع في حمأة الغضب، وعواقبه الوخيمة. والغضب يؤدي بصاحبه إلى المهالك، وقد حذر منه صلى الله عليه وسلم، وأرشد إلى طرق توقيه، ففي الحديث عن سليمان بن الصرد رضي الله عنه أنه قال: استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم ونحن عنده جلوس، وأحدهما يسب صاحبه مغضباً قد احْمرَّ وجهُهُ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم). وكان من وصيته صلى الله عليه وسلم أن رجلاً أتاه فقال: أوصني، قال: (لا تغضب)، فردد مراراً قال: (لا تغضب). والغضب من أسباب نشر الأحقاد والضغائن بين الناس، مُورث لغضب الله تعالى، يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: (دخل الناس النار من ثلاثة أبواب: باب شبهة أورثت شكاً في دين الله، وباب شهوة أورثت تقديم الهوى على طاعته ومرضاته، وباب غضب أورث العدوان على خلقه). وإن مما يساعد الإنسان على ضبط النفس مع ضغوط الحياة، وكثرة المشكلات اليومية التي تواجه الإنسان في منزله، وعمله، ومجتمعه، أن يكون متسلحاً بالعلم النافع، ومن ذلك علمه بالنصوص الشرعية التي تبين فضل الصبر، والحلم، وضبط النفس، والنصوص التي تبين مساوئ الغضب الشرعية، والعلم بمفاسد الغضب والانفعالات على صحة الإنسان، وحياته، واستقراره النفسي، فالعلم بمآلات الأمور يعين على ضبط النفس عند الغضب بإذن الله تعالى، ومما يعين على كبح جماح النفس عندما تزداد عليها الضغوط النفسية، والمشكلات الاجتماعية، ومشاق الحياة، أن يجاهد الإنسان نفسه على تعلم الحلم، فكما ورد في الحديث (الحلم بالتحلم)، وقد قال تعالى:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}، ومما يعين على تحمل المشاق، والصبر، والحلم، مقابلة السيئة بالحسنة، ودفع السيئة بالتي هي أحسن، كما أمر الله تعالى:{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظ عَظِيمٍ}، ومما يعين على ضبط النفس، وكبح جماحها، الإعراض عن الجاهلين، كما أخبر الله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}، فالإعراض عمن قل علمه وفقهه في الدين، وكثر لغطه، والبُعد عن مواطن مثيرات الغضب، ومجالس اللغو، فإن ذلك من أحسن ما يعين على ضبط النفس، وإن من أعظم ما يعين على الحلم وضبط النفس أن نعلم أن صفة الحلم خُلق يحبه الله، ففي الحديث قال صلى الله عليه وسلم لأشج بن عبدالقيس: (إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة)، ويبقى أنفع علاج لمشكلة ثوران النفس وغضبها، ذكر الله تعالى، قال تعالى: {وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ}، وقال تعالى:{وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ} ولا شك أن علماء النفس والطب والتربية قد توصلوا إلى عدد من القواعد العلمية، والممارسات الصحية، والإرشادات التربوية التي تقي الإنسان من الوصول إلى حالة الغضب وشدته، والتي تعين على تعلم الحلم وممارسته، وتلك القواعد والتوصيات مبثوثة في عدد من المراجع العلمية الطبية، والنفسية، والتربوية المتخصصة، فيحسن بالمرء تعلمها، والاطلاع عليها، بجانب ما ذكرنا من الإرشادات الشرعية.

الظاهر والباطن

وتؤكد الدكتورة مزنة بنت مزعل العيد، الأستاذ المساعد بقسم أصول الفقه والدراسات الإسلامية بجامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن، أن الانفعال والغضب يعدان أمراً فطرياً وجبلياً لا يمكن الانتهاء عنه أو زواله، فكل منا يستعرض الكثير من المؤثرات الخارجية أو ما تسمى بالضغوط الحياتية، التي عادة ما يكون سببها الحالة المادية الاقتصادية، أو الظروف الاجتماعية، أو غيرها من الأسباب، وفي مقابل ذلك تتفاوت قدرة الناس في تحمل أو مواجهة تلك الضغوط، التي في الغالب ما تكون عند (البعض) خارجة عن الطاقة؛ ما يجعل (بعض) الناس قد يفقد سيطرته في ضبط النفس. ولقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم أهمية كظم الغيظ، بل واجتناب أسبابه، والأحاديث في هذا الباب كثيرة جداً، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم، أوصني: قال: (لا تغضب) فردد مراراً، قال: (لا تغضب). رواه البخاري، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ليس الشديد الصرعة، (إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) وقد مرّ الرسول صلى الله عليه وسلم بقوم يصطرعون، فقال: ما هذا؟ قالوا: فلان ما يصارع أحداً إلا صرعه، قال: (أفلا أدلكم على من هو أشد منه؟ رجل كلمه رجل فكظم غيظه فغلبه وغلب شيطانه، وغلب شيطان صاحبه). والحقيقة كما قال العلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم قد جمع خيرَي الدنيا والآخرة في كلمة (لا تغضب). والغضب من قبيح الخلق وسيئه، فقبحه ظاهر في الظاهر والباطن كما أورد ذلك ابن حجر؛ فالغضب يؤول إلى التقاطع، ومنع الرفق، وربما آل أن يؤذي المغضوب عليه فينتقص ذلك من الدين بالإضافة إلى ما يظهر على الغاضب من تغير في اللون والرعدة في الأطراف وخروج الأفعال من غير ترتيب، ولو رأى الغضبان نفسه في حال غضبه لاستحى من قبح صورته، كما أنه يولد الحقد في القلب، والحسد، وإضمار السوء على اختلاف أنواعه، بل قد يتعدى لإطلاق الشتائم والكلام الفاحش البذيء الذي يستحي منه العاقل، بل ويندم قائله عند سكون غضبه، بل ربما يتعدى غضبه لأن يقتل أو يضرب أو يؤذي من حوله. والواقع شاهد على ذلك؛ فمن تأمل هذه المفاسد عرف الحكمة التي من أجلها جاءت وصية الرسول صلى الله عليه وسلم.

ومن الوسائل التي تعين على ضبط النفس: استحضار ما جاء في فضل كظم الغيظ؛ يقول الطوفي: أقوى الأشياء في دفع الغضب استحضار التوحيد الحقيقي؛ فإن الإنسان متى ما استعاذ بالله من الشيطان أمكنه من استحضار الفضل في كظم الغيظ ولا بد على الإنسان أن يأخذ بالأسباب التي توجب حسن الخلق من الحلم والحياء والترفع عن الصغائر ومحقرات الأمور، والصفح والعفو، والطلاقة، والبشاشة، فإن النفس متى ما تخلقت بذلك صارت لها عادة أوجب لها ذلك دفع الغضب عند حصول أسبابه. ذكره ابن رجب. كما أن لنا في رسول الله قدوة حسنة؛ فقد كان لا ينتقم لنفسه، إلا إذا انتُهكت حرمات الله، فلم يضرب بيده خادماً ولا امرأة، فقد خدمه أنس عشر سنين فما قال له أف قط. هذا والله أعظم الخلق الذي يجب التأسي به.

وأختم حديثي بما قاله صلى الله عليه وسلم لأشج بن عبدقيس: (إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة). فتصور كيف يكون البيت الذي تخلق أهله بتلك الصفة، بل كيف يكون المجتمع لو كان أكثره كذلك!




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد