ورد في جامع الترمذي في حديث المنام المشهور الذي رواه معاذ بن جبل رضي الله عنه وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم ناداه ربه: (قال الله جل جلاله: محمد قلت: رب لبيك رب، قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ (ثلاثا) قال: فرأيته وضع كفه بين كتفي، قد وجدت برد أنامله بين ثديي، فتجلى لي كل شيء، وعرفت، فقال: يا محمد! قلت: لبيك رب، قال: فيم يختصم الملأ الأعلى، قلت: في الكفارات، قال: ما هن؟ قلت: مشي الأقدام إلى الجماعات، والجلوس في المساجد بعد الصلاة، وإسباغ الوضوء في المكروهات، قال: ثم فيم؟ قال: إطعام الطعام، ولين الكلام، والصلاة بالليل والناس نيام، قال: سل: قلت: اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت فتنة في قوم فتوفني غير مفتون، وأسألك حبك وحب من يحبك، وحب عمل يقرب إلى حبك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها حق فادرسوها ثم تعلموها). قال أبو عيسى الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، سألت محمد بن إسماعيل (أي البخاري) عن هذا الحديث فقال: هذا حديث حسن صحيح.
وقد سقت هذا الحديث بطوله للدلالة على الخصومة التي في الملأ الأعلى، واستوقفتني تلك الخصومة التي ذكرها الله الكريم في كتابه قال تعالى {مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْم بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ}ص:69، والخصومة الواردة في الحديث الجليل، وقد يقول قائل إن الآيات فسرت هذه الخصومة، وسياق الحديث بين سببية هذه الخصومة في الملأ الأعلى؟ وليس هذا هو محل السؤال؟؟
لكن الذي استوقفني وأثار دهشي وعجبي أن النبي صلى الله عليه وسلم رجل من الأميين لا يعرف لغة قوم غير قومه، وامتدحه الله تعالى على ذلك، قال تعالى {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} النحل:103
فمن علّم محمداً صلوات الله وسلامه عليه النبي الأمي لغة السماء؟
وأقول: إن من يسكن السماء هم الملأ الأعلى، وهم الملائكة الكرام الذين اصطفاهم الله تعالى لنفسه جل جلاله، وهم المصطفون الأخيار، والأدلة على قيامهم باللغة العربية كثيرة لا تحصى منها دعاء حملة العرش، وحديث الإسراء والمعراج، وغير ذلك.
وعند تتبع الآيات الواردة في ذكر يوم القيامة وما فيها من الأخبار والعبر والفوائد يرى الإنسان عجباً، ويقف شدهاً أمام تلك اللغة التي يتخاطب فيها الناس في كل عرصة من عرصات يوم القيامة، ويذكر القرآن الكريم البيان الواضح الجلي في لغة أهل الجنة، قال تعالى {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}يونس:10
فهذه الآية وغيرها كثير في الكتاب المبين هي بيان واضح على اصطفاء اللغة العربية على جميع لغات العالمين، وأن الناس وإن كانت لغاتهم مختلفة، فستبقى هذه اللغة هي اللغة الرائدة المصطفاة المختارة في الدنيا والآخرة، وهذا يفسر الاهتمام العالمي في تعلم اللغة العربية والانتماء إلى المراكز اللغوية، حتى ذكر بعض الباحثين اهتمام الكثير من الأوربيين والأمريكين بتعلم اللغة العربية أكثر من اهتمام الباحثين العرب، مع ضرورة الاهتمام بتعلم اللغات الأخرى مقارنة بلغة السماء وأساليب بيانها ومفرداتها وإعجازها.
ومع كل هذا التفضيل والتكريم والإخبار بأن لغة السماء هي تلك اللغة الجميلة التي تحدى الله تعالى بها الإنس والجن، يجد المرء أن هناك قصوراً في إدراك هذا المقام الرفيع بالمحافظة على لغتنا وتعلمها والعناية بعلومها وآدابها وفنونها إلا من رحم الله، وبعض هؤلاء كان تعلمه لها إجباراً وإكراهاً!!
وتتطلع الألباب وتتشوف إلى أهل اللغة العربية من عالم ومعلم ومفكر وطالب وتاجر وزارع وغيرهم أن يحافظوا على هذا اللسان العربي، خصوصاً مع شدة الإعراض عنها، لذا كان جرس الخطر مفزعاً، والواجب أن تكون لغة السماء في بلد الخير ومهد الهدى ومهبط النور هي لغة الحوار في قاعة الدرس وفي التربية والإدارة والإعلام والاقتصاد وغير ذلك كثير، كما هي لغة السماء في الخصومات والدرجات والمعجزات والدعوات والنيران والجنات.
* الأحساء
drhuda87@hotmail.com