وقف الأستاذ شمران أمام سبورة الصف الثالث يكتب عنوان الدرس (احترام الكبير) فتعالت أصوات الطبلة خلفه مشاغبين وأخذ يخاطبهم وهو يكتب التاريخ والعنون: أسكت يا شاطر، بدون صوت يا شاطر، فتتعالى أصوات الطلبة، بعضهم مشاغب، وبعضهم شاك له: أستاذ شف راكان يضربني، أستاذ شف سالم يلعب، أستاذ محمد يأكل علك، تتعالى الأصوات ويزيدها تقليد بعضهم لأصوات أبواق السيارات: بسيب، بيب، طوووط، طووط، وأحدهم يجر طاولته إلى آخر الصف محدثاً صوتاً مزعجاً كأنه أزيز طائرة، يلتفت الأستاذ شمران إليهم بعصبية، لكنه يحافظ على ضبطه لأعصابه، ودماثة خلقه، وتهذيب ألفاظه، ومع ذلك يصرخ بصوت عال لعله يؤثر بهم: اجلس يا سلمان، هدوء، بدون صوت، يا زبن اسكت، يا شاطرين اهدؤوا، اعقلوا، لكن دون فائدة تذكر، فيعاود الالتفات إلى السبورة ليكمل كتابة موضوعه، وفجأة سكت الطلبة، وأخذوا بالإنصات وعيونهم تنظر يميناً وشملاً، وآذانهم مفتحة، يتوجسون، ويترقبون مصدر ذاك الصوت، أين هو؟ إنه مواء زوج قطط معلنا قدوم موسم شباط دافئ بارد، ستهب في ثناياه رياح شمالية قادمة من منخفضات سيبيرية، استدامت الوجوه كلها شمالاً، إنه ينبعث من ذاك السرداب الذي تطل عليه شبابيك فصلهم الشمالية، تقافزوا من كراسيهم مسرعين تجاه النوافذ، تدافعوا بقوة وركبوا على الطاولات والكراسي، كل يريد أن ينظر من الشباك قبل الآخر لعله يرى صاحب ذاك الصوت، أحثوا فوضى واضطراب في الفصل، وأستاذ شمران يحاول إعادتهم إلى مقاعدهم وإسكاتهم، حاول جاهداً بكل ما أوتي وتعلم من أساليب التربية الحديثة وألفاظها مرة يربت على كتف طالب يرجوه أن ينزل عن الطاولة ويجلس على مقعده، ومرة يمسك يد طالب بهدوء محاولاً إنزاله ولكن الطالب ينفض يده منه بقوة، ومرات كثيرة تودد وتلطف لهم بألفاظ وجمل جميلة، انزل يا شاطر، يا ابني انزل، الله يصلحكم اجلسوا، يا حبايبي، يامؤدبين انزلوا، مرة يخفض الصوت بهدوء، ومرة بأعلى صوته ولكن دون جدوى، فأصواتهم ترتفع على صوته مستمتعين، فرحين، وهم يطلون برؤوسهم من نوافذ الفصل بحثاً عن صاحبي ذاك الصوت اللذين خافا، واختبآ فزعاً من تلك الوحوش الطفولية داخل نصف بلكة مكسور يفضي إلى مخزن صغير منسي ومهجور، وأصوات الطلبة يتعالى بعضها على بعض، وينه، إنه هناك، لا لا انظروا هنا تحت، وين راحوا، اسكتوا ما نسمع الصوت، يمكن هربوا إلى الحوش الثاني، أحد الطلبة يموء: ميوو، ميوو، ميوو، لعله بذلك يستدرجهن للخروج من مخبأهن، والآخر ينبح، أوه، أووه، أوه أوه، لعله بذلك يخيفهن، ثم يصدح أحدهم بصوت عالٍ: عاش الهلال، يجيبه مجموعة عاش النصر، يزاحمهم الآخرون: يحيى الأهلي، وغيرهم: حيوا الشباب، وكأنهم في الملز، وأستاذ شمران يحاول جاهداً ضبط النظام، وإعادة الفصل إلى هدوئه، ولكنه يفشل فيتركهم على فوضاهم ويقوم بالمرور بين طاولاتهم ليجمع كتب القراءة والإملاء حتى يصححها في حصة الفراغ القادمة، وفي أثناء مروره يقرع جرس المدرسة، معلناً نهاية الحصة، وبداية حصة فراغه، لينقلب الموج الطلابي هادراً بغزارة من الشمال إلى الجنوب، فما أن سمعوا صوت الجرس حتى تركوا مهمة البحث عن صاحبي المواء، وتدافعوا صوب باب الفصل كل يريد الخروج بحجج واهية مختلفة: أستاذ أريد الحمام، أريد أن أشرب ماء، أنا المرشد الطلابي يريدني، أبي أجيب كتاب من الفصل الثاني، وهو يدافعهم عند الباب لا يريدهم أن يخرجوا: ادخل يا شاطر، لا لا ما أحد يطلع، اجلسوا الله يهديكم، الله يصلحكم، علا صوته، وعلت أصواتهم حتى عمت ضوضاء الأصوات ساحات وقاعات المدرسة، وفجأة وإذ بالطلبة يتدافعون منتكسين على أعقابهم هاربين إلى مقاعدهم بسرعة، وكل يجلس على مقعده مكتفاً يديه بأدب ويعم المكان صمت رهيب، وأدب جم.
يستغرب أستاذ شمران ويتساءل باندهاش:
ما الذي قلب حالة الطلاب رأساً على عقب، وحول فوضاهم إلى هدوء، ومشاغبتهم إلى أدب.
بدد اندهاشه واستغرابه صوت سمعه خلفه، التفت خلفه ليرى الأستاذ عثمان قادماً يمشي في آخر الممر المدرسي.
على فكرة: الأستاذ عثمان من أشد المعارضين لمدرسة التربية الحديثة ومن المتحمسين والمناصرين بقوة للتربية التقليدية القديمة.
سعود بن عماش الرمالي- حائل