الجدل المفرغ من موضوع ثابت مقدمة لفشل الحوار متى اندفع والتعصب معه، والغرور رائده وموجه لخطاه والجدل بين اثنين من الناس قد يكون سببا لضياع الحقيقة، ومانع من التوصل لفهم مشترك، وبالتالي قد يعقبه فعل هو كذلك.
وحين يكون موجها للنفس وما عليها من واجبات، أو وجهت إليه ليسمو في أخلاقه والرقي نحو الخير فإن الحوار أجدى من الجدل المفرغ من المعني الساكن بلا سكينة؛ السائد في النفس على غير هدى ويؤدي إلى ضياع الطريق والهدف. والآية التي نصها {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} ثم قوله عزّ من قائل {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظ عَظِيمٍ}.
دعوة وتوجيه ترغب الإنسان في السمو بأخلاقه حيث يقابل السيئة بالحسنة وان يتقبل بالصبر وقعها على النفس، فيعمل وفق منهاج القرآن وهذا فعل عظيم من واقع ما يوجه به قول الحكيم العليم {الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}.
فمن يحاور نفسه وينقلها من حالة ملئت بالعداء والكره والبغضاء، إلى حالة من التسامح الذي يؤكده الدفع بالحسنات أمام السيئات فيتحول هذا العدو المبين إلى صديق حميم؛ بل ولي حميم.
إن قدرة كتلك صعب منالها، ولا يتحقق شيء منها إلا بتعويد النفس وقهر شرورها المسلطة على الآخرين بدافع من الهوى والرغبة والعجلة والتصرف من خلال الاستجابة لرد الفعل السيئ وغلبته على معطيات الخير التي في النفس، كما ان هذا التوجيه من لدن عالم بصير أعلم من الإنسان بنفسه، وحين يأتي التوجيه بذلك لهو تأكيد على وجود الإمكانية والقدرة عليه، وذلك بعلمه سبحانه بأن النفس عامرة به.
النفس لا تضيق بها الوسائل حين استدعائها والدفع بها كمنهاج ونهج بين الحسنة والسيئة.
أليس هذا قول ونهج وفعل يجعل من الثأر أسطورة تتذكرها النفوس كخاطر كان، أكد العجز والجهالة فلا ثأر ينبعث مع نهج كهذا، والثأر ليس بالضرورة في حدود القاتل والمقتول؛ بل هو ما نراه فيمن يسارع إلى الثأر من كلمة يظن أنها هدمت كيانه وأساءت إلى تكوينه فيجند كل الوسائل لردها بالسوء الأشد والأخطر، ويبرر هذا بأنه يأخذ بثأره، وان البادئ أظلم، لكن في سمو الأخلاق التي ينال بها الإنسان مرضاة خالقه ومرضاة نفسه تلك التي تسير مع بادئ الخير الأول وتأخذ منهاجه وتعاليمه، إنها متعة للنفس مع الحياة أن يجرب الإنسان قهر النفس حين تأمره بالسوء فتعمى بصيرته عن مصادر الخير في نفسه وان كانت قدرتها تمكنه من الفعل الذي به يرضى ويُرضي كل قيمه وأخلاقه.
إن الاستجابة المتعجلة برد فعل يأخذ بأسباب السوء، لهو وسيلة تعمق بذور الشر في النفوس البشرية، وتقود الإنسان إلى مخاطر لا تحمد عقباها على مستوى الدنيا والآخرة؛ حيث إن التسامح يزيل من النفس كل داع للانتقام الذي بطبيعته ليس من شيم الرجال، وليس منهاج للصالحين منهم.
فالبؤرة التي تُرغب بالانتقام هي بؤرة فساد في النفس طريقها متى قصرت الرؤيا عن إدراكها هلك بأسبابها من يسير فيه وجنى من الخسارة والضياع الكثير الذي به يؤثر على بناء المجتمع وطموحه نحو الأسمى، وما يُعلي من شأنه، فإذا لم يكن الفرد في مجتمعه ذو عطاء بالخير ومن أجله فالأحرى به أن لا يكون سببا في فساد المجتمع ومدعاة له.
فأخلاق المجتمع بطهارتها أو فسادها هي مسؤولية الجميع من أفراده؛ فصلاح المجتمع يبدأ من صلاح الفرد، والطموح نحو فعل الخير وطهارة السلوك هو منهاج قد يكلف النفس، ولكنه منهاج يأمن به المجتمع، ويحقق الأمن والسلام، وكل حوار حول اهتمامات المجتمع أو أخلاقياته لها حدود وشروط.
فمن شروط الحوار ان لا ينتهي بجدل وتعصب للرأي وان يكون المتحاورون متقاربين في الفهم والمكانة حتى لا يؤدي استضعاف أحدهم للآخر إلى احتقاره واحتقار ما يقول، وان يكون هدف الحوار السعي نحو حقيقة الموضوع وجوهره، وليس الدوران من حوله وفق دوافع أخرى، وان يعطي كل منهما الوقت الكافي كي يستوفي مسألته، وأن لا يفسد عليه حركة تفكيره وتوارد الخواطر، وان يفهم كل منهما مراد الآخر وهدفه من الحوار؛ حتى لا نقع في إشكال يؤدي إلى ان يُقول ما لم يقله، وان تتوجه بهم قضية الحوار إلى تعاون في التفكير الإيجابي الذي لا يخرج عن موضوع الحوار.وان يحرص كل من المتحاورين على تبادل الاحترام، والسير على هديه كوسيلة وسبب تخدم أصل الموضوع وتقصي حقيقته، وان يكون الهدف من هذا الحوار إظهار الحقيقة بصرف النظر على يد أي منهما.
2x2y@mail.com