كنت جالساً في منزلي بالرباط يوم الجمعة الماضي منهمكاً في تأليف كتابي (مباهج الأندلس)، وليس من عادتي أن يطرق باب داري ضيف دون موعد مسبق، وكانت الساعة العاشرة والنصف مساءً أي بعد غروب الشمس بساعة واحدة في هذا الوقت من العام، وسمعت جرس المنزل الداخلي يصدر صوته إيذاناً بقدوم شخص ما، وأرسلت مساعدي بالمنزل ليتبين الأمر، وعاد ليبلغني بأن شخصا يسأل إذا ما كنت موجوداً بالمنزل، وخرجت من المنزل إلى الفناء وإذا برجال الامن بالمنزل موصدين الباب كما هو المعتاد، وقالوا لي: إن عند الباب رجل يريد زيارتك معرفاً نفسه بعبدالعزيز خوجه، وعندما طرق الاسم أذني عاجلتهم قائلاً: افتحوا الباب على مصراعيه ودعوه يدخل بسيارته، وإذا بأخي معالي وزير الإعلام الدكتور عبدالعزيز خوجه يترجل من السيارة مع رفيقين له، ورحبت به أيما ترحيب، ودخلنا معاً لنتجاذب أطراف الحديث، فكانت مفاجأة جميلة لن تنسى، علماً بأني التقيته قبل ذلك بيوم في أكادير وقدمنا معاً في طائرة واحدة، وبادرني قائلاً بأنه مرَّ بمنزلي وإن شئت قل منزله في طريقه للتجول في الرباط، فحنّ لهذا المنزل الأنيق الذي قضى به بضع سنين من العمر عندما كان سفيراً في المغرب، رسمت في ذاكرته الكثير من الذكريات الجميلة، وكيف لا وهو الشاعر الرقيق الذي ربما ألهمه هذا المنزل بعضاً من الأبيات الشعرية ليؤكد ما قاله في قصيدته (براءة) حيث قال:
|
من قال إني قد تركت ربيعها |
وعبيرها في كل زاوية يفوح بودِّها |
ولهذا فقد جاء ليشم ما قد بقي من فوح عبيره، لأنه يقول فيها:
|
هي لم تزل أصل الهوى |
حبي لها أبداً لها |
وحتى يثبت أنه مازال محباً لها، سائراً في غيها جذبه فوح عبيرها فلم يستطع أن يمر على المنزل دون أن يقف ببابه رغم أنفه مدفوعاً بتلك الذكريات الجميلة فكان من حسن حظي أن أسعد بلقائه. وفيما يبدو أنه صادق فيما قال من أبيات في هذا المقام، وليس كحال الشعراء الذين يقولون ما لا يفعلون، وهو يتلمس العلة التي جعلت الناس يقولون إنه قد تركها، ولن أورد ما قال، ومن أراد السبب فعليه الرجوع إلى الديوان.
|
لقد كان هذا المنزل أيام سكنى معالي الدكتور عبدالعزيز فيه محطة للأدباء والشعراء والفنانين، فقد كان يألف مجالسهم، ويأنس بحديثهم، فالتف حوله عدد غير قليل منهم، سهل عليّ المهمة فيما بعد عندما عينت سفيراً بعده، وأردت الاستمرار في التواصل مع الأدباء والشعراء.
|
وأعرف أنه قال جُلّ قصائده عندما كان قاطناً بالمغرب، ومنها قصيدته التي سماها (عربدي):
|
فتنة تزهو بالصبا |
بعثرت قلبي إربا |
لقد قضينا معاً نحو ساعة تبادلنا فيها الأحاديث وأعدنا لذاكرته ما قد محته الأحداث، كما تطرقنا إلى موضع عالمنا العربي والمسلم من السباق المحموم في مجالات الاقتصاد والتقنية، وما يحفل به الفضاء من وسائل إعلام وتأثير ذلك على النشء وسبل التحصين من الطالح والاستفادة من الصالح.
|
والمغرب الشقيق يستحق التعريف به إعلامياً فهو متنوع التضاريس فهناك الجبال العالية، والغابات الكثيفة، والسواحل الطويلة الهادئة، والفيافي والقفار، والأنهار والبحار، كما تزدان صحراؤه بالزهور الزاهية المختلفة الألوان، ذات الرائحة الفواحة، وفوق ذلك كله شعب جبله الله على الكرم وحسن الاستقبال وحب المساعدة.
|
بعد يوم من ذلك اللقاء الأخوي دون ميعاد، جمعته بمن سمحت له ظروفه بالحضور ممن يألفهم من أدباء وشعراء وزملاء عمل، فأخذنا أطراف الحديث في مواضيع شتى وجرنا الحديث إلى قواعد اللغة العربية، وهل الكلمة في أصلها بالكسر أو الضم، والمصدر، والمفعول لأجله، والمفعول المطلق، وغيره من قواعد اللغة، وقرأت في عيني معاليه أن مثل هذا الحديث لا يستهويه، فهو يريد قصيدة شعر ترفل بالغزل، ووصف الحبيب، وظلم الرقيب، لا سيما أنه في المغرب لفترة وجيزة، فلعله يخرج لنا بقصيدة، بعد أن عاد للمغرب زائراً، وكان قد غادرها سفيراً فقال في قصيدته التي سماها (وداعا يا مغرب) ومنها:
|
من أنت؟ قلت، فرد مبسمها |
مِنْ موطن الأمجاد والكبر |
مكناس أهلي من ألوذ بهم |
والدار في أكدال للسمر |
علوية حسنية نسبي |
أجدادنا كالأنجم الغرر |
|
حان الرحيل فهل أودعها |
يا قلب قل يا أدمعي انهمري |
هذا المنزل الذي حنَّ إليه الوزير ويعرفه أكثر مما أعرفه عشت فيه فترة من عمري وحيداً ومازلت، ونعمت فيه ولله الحمد بالصحة والعافية والتوفيق، وهكذا الدنيا حلّ وترحال، وانتقال من بلد إلى آخر ومن موقع إلى آخر، ولن يبقى سوى الذكر الطيب في الدنيا، والعمل الصالح في الآخرة، فكلّ منا قدّم وسيقدم غير أن ما يبقى هو ما نفع الناس وما ينفعهم وهو المعيار الذي يقاس به الأداء، وقد انتفع من معاليه الكثير في المغرب الشقيق، وبالله التوفيق.
|
|