نحتاج بين وقتٍ وآخر إلى الرؤية الشمولية لموضوعاتنا وقضايانا الوطنية.. التي تأتي من خارج الدائرة التي نعيش فيه. ومفهوم الصورة الكاملة هو استراتيجية مهمة تساعدنا على رؤية الأمور من خلال عدسات جديدة، وعبر زوايا مختلفة..
ومجتمعنا العربي السعودي حقق قفزات حضارية مهمة قد لا تظهر لنا، إذا أغرقنا في الصورة الداخلية، أو الصورة الجزئية نحو مجتمعنا، ولكنها تتبدى وتتضح إذا أخذنا عاملين مهمين، هما التاريخ والجغرافيا في النظر إلى مختلف التطورات والتحولات التي حدثت في بلادنا.. فالتاريخ يضيف بعد الزمن المهم إلى معادلات التغير والتحولات المجتمعية، وعامل الجغرافيا يعطي أهمية للبعد المكاني سواء من توسيع مفهوم المكان، أو من خلال مقارنات مكانية أخرى في دول الجوار أو في دول تنموية أخرى..
الصورة الشاملة أو الصورة الكاملة تنعدم عند بعضهم، مما يجعلهم ينظرون إلى الأمور من باب فرعي، أو عبر نافذة صغيرة، أو من خلال صورة مشوشة.. وهذا ما أقصده من ضرورة أن نفكر جميعاً عبر البوابات الكبيرة، ومن أعلى مستويات ممكنة للرؤية العامة للأمور.. ويوجد مثل أجنبي يقول اذهب إلى الشرفة go to balcony ويمكن توظيفه هنا ليجعلنا نخرج أحياناً من مواقف معينة تحت تأثير ومعايشة وقتية، إلى أعلى شرفة في المنزل أو المدينة حتى نرى الأمور على حقيقتها..
المجتمع السعودي خاض خلال العقود الماضية تجربة تنموية هائلة بكل المقاييس الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتعليمية، ولكن لم يسجل التاريخ إلى اليوم الحجم الحقيقي لهذه الإنجازات العميقة في بنية المجتمع.. ومن يعش في الداخل ويتآلف مع روتين العمل اليومي، يفقد هذه الصورة التي ينبغي علينا جميعاً استيعابها في المشهد السعودي العام. ويمكن - على سبيل المثال لا الحصر - أن أوضح هنا أن المجتمع السعودي عمل على قضايا أساسية محورية مثل التعليم والصحة، ولكنه في المقابل انتشل قضايا كانت هامشية في المجتمع وأصبحت اليوم قضايا أساسية في التفكير والعمل الاجتماعي، مثل قضايا الإعاقة، وقضايا الموهبة والإبداع، والسياحة وغيرها من القضايا.. ولهذا فإن المشهد العام عن المجتمع يستدعي زوايا وموضوعات كانت صغيرة في حجم اهتمام المجتمع فيها، ولكنها أصبحت كبيرة عبر الزمن ومن خلال أشخاص خدموا مثل هذه الموضوعات..
التعليم لا شك هو قضية محورية أساسية في أي مجتمع، ولكن من يلاحظ القفزة الكبيرة في مستويات التعليم على جميع الأصعدة العددية والنوعية، سيشكل له صدمة كبيرة.. فلو غاب شخص عن المجتمع لمدة أربع سنوات فقط، ثم عاد اليوم ليتعرف على ما تم في التعليم، وخصوصاً التعليم العالي، فلا شك أنه سيُصاب بصدمة كبيرة، لأنه لن يستوعب ما يدور حالياً في مجتمعنا السعودي. وقد حققت وزارة التعليم العالي من خلال الجامعات الجديدة، والكليات والتعليم الأهلي قفزات هائلة غير مسبوقة في أي مجتمع من المجتمعات الإنسانية في وقت قياسي يقدر بثلاث أو أربع سنوات.. وهذه النقلة تقدر من إنجازات الملك عبدالله بن عبدالعزيز صاحب الرؤية الشاملة، التي تنطلق من العمل الوطني الذي يتجه إلى المستقبل دائماً.. وللتوضيح فإن هذه الإنجازات التعليمية - على سبيل المثال - لا يدركها الأشخاص الذين عاشوا معها، أو استفادوا منها، ولكن يُدرك حجمها الكبير من يقف خارج الدائرة، وينظر من أعلى إلى ما يدور أمامه من مشهد عام لكل الأمور، عبر الزمن (التاريخ)، أو على مساحات المكان (الجغرافيا)..
كما أن النظر عبر مفهوم الصورة الكاملة يعطينا وضوحاً في حجم الاهتمامات المجتمعية بقضايا لم تظهر إلى السطح إلا خلال سنوات مضت، وفي فترات قصيرة، وصحيح أننا نعايشها بشكل روتيني، ولكنها لمن ينظر (عبر الشرفة) هي قضايا كبيرة، وتمثل مشهداً حضارياً كبيراً في بنية المجتمع السعودي. ومثال الاهتمام الكبير الذي توليه الدولة والمجتمع بقضايا فئات الاحتياجات الخاصة منذ سنوات وفي تنامٍ هو مشهد حضاري كبير بدأ يتكرس في عمق التفكير المجتمعي.. كما أن قضايا الموهبة والإبداع وتأسيس مؤسسة الملك عبدالعزيز ورجاله للموهبة والإبداع هي نموذج آخر يضاف إلى المشهد الحضاري الكبير في مجتمعنا السعودي.. وكذلك موضوع السياحة بدأ صغيراً، وأصبح قوة اقتصادية كبيرة على مختلف المناطق، ومن خلال منافذ جديدة لم تكن في الحسبان..
وإذا عدنا إلى موضوع الصورة الكاملة والصورة الجزئية، فإننا للأسف نجد أن وسائل الإعلام تساعد - دون قصد - في تكريس مفهوم الصورة الجزئية نحو القضايا والموضوعات.. فمع التغطيات الروتينية والمتابعات الإخبارية تقدم لنا وسائل الإعلام سواء هنا أو في كل مكان تقريباً من العالم صوراً جزئية نحو الأحداث والقضايا المحلية أو الدولية.. وللتوضيح مثلاً فإن متابعة وسائل الإعلام لافتتاح كلية أو مستشفى أو مدرسة أو فندق يكون متجهاً نحو حدث اللحظة الحالية، دون استدعاء المشهد العام عن البيئة التي أفرزت مدرسة أو جامعة أو مستشفى أو شركة أو غير ذلك.. والشيء نفسه ينطبق على كثيرٍ من الأفراد الذين ينظرون إلى الأحداث في صيغتها الراهنة دون الرجوع عبر الزمن إلى مقارنات تعكس أن هذا الإنجاز هو سلسلة متصلة من الأحداث المتتالية التي تعبر عن اتجاه محوري في سياسات مجتمعية كبيرة.. ولهذا فإن وسائل الإعلام في محاولة منها إلى تغطية هذا النقص تعمد إلى إنتاج برامج توثيقية أو وثائقية تضع عامل الزمن محطة أساسية في تطور القضايا والموضوعات..
وأخيراً، نحتاج إلى أن ندرب أنفسنا على نظام الصورة الكاملة عندما ننظر إلى الأشياء أو الموضوعات والقضايا المجتمعية.. وعندما ننظر جزئياً، أو عبر منافذ محدودة، أو خلال فترة زمنية قصيرة، فإننا لا نُدرك كل الأشياء، ولا نستوعب كل المسائل، وهذا ما يجعلنا دائما نكبّر من الأخطاء الصغيرة، ونغفل الإنجازات الكبيرة..
المشرف على كرسي صحيفة « الجزيرة» للصحافة الدولية، أستاذ الإعلام المشارك بجامعة الملك سعود
alkarni@ksu.edu.sa